" وكان الرّبّ مع يوسف " ( تك 2:39)، وذلك لأنّ يوسف كان مع الرّبّ. الرّبّ حاضر دائماً ولكن على الإنسان أن يقبل هذا الحضور بشكل مستمرّ، مدركاً أنّ كلّ خطوة في حياته، هي تحت نظر الرّبّ. " ورأى سيّده أنّ الرّبّ معه وأقامه على بيته ( 4،3:39). إن كنت مع الرّبّ فلا بدّ أن يرى أي إنسان انعكاس النّور الإلهي على وجهك، كما لا بدّ أن يأتمنك على نفسه. فمن يسير مع الرّب ويسلك دربه يشعّ سلاماً ومحبّة على من حوله وتصبح كلّ تصرّفاته مباركة من الله. وهذا ما دفع فوطيفار، كبير خدم فرعون، لدفع كل ما كان له ليوسف، ما هو مميّز جدّاً. ويشير هذا إلى تعويض الرّبّ لحظة بلحظة عمّا يعانيه الإنسان. يوسف الّذي لم ينسب شرّ إخوته إلى الله، وأبقى على الله في حياته كان سبب البركة الّتي منحها الرّب لبيت المصريّ. فالمؤمن يتشفّع لإخوته من خلال صلاته واتّحاده بالله، ويكون بركة الله في حياة الآخرين.
رغم كلّ الألم، ثابر يوسف على اتّحاده بالله. ولم يتحوّل إلى التّهجّم على الله، ولم ينح ويعاتب الله، بل ازداد ثقة به، لأنّه كان يقرأ كلّ حدث في حياته على أنّه عناية إلهيّة. وها هو يُلقى في السّجن مجدّداً بسبب زوجة فوطيفار، ( 20،7:39)، ورغم ذلك حفظ يوسف مكان الرّبّ في حياته، فنال حظوة عند رئيس السّجن وسلّمه جميع السّجناء. إنّ قدرة احتمالنا للصّعوبات تكمن في فهمنا ووعينا لأهميّتنا في مخطط الله الخلاصيّ، فنقتبل كلّ شيء ونحفظه في قلبنا، متأمّلين الأحداث ومستخرجين منها قصد الله.
(36،1:41)، في هذا الفصل نرى يوسف يفسّر الحلم لفرعون انطلاقاً من الله، وهنا الحلم يدلّ على أنّ الله يوجّه البشريّة كلّها. مبدأ الحلم، هو نظرة الله إلى كلّ ما سيأتي من أمور، لأنّ العناية الإلهيّة ترسل يوسف ليس ليخلّص إخوته من الجوع الّذي سيفتك بمصر وحسب، وإنّما ليخلّص مصر كلّها. الرّبّ الّذي وجّه حياة يوسف، يوجّه حياة مصر، وحياة شعوب العالم كلّه، ليقول أنّه هو وحده يعطي ويوجّه، ويرافق في كلّ المحن والصّعوبات. وهذا لا يعني أنّ الإنسان مسيّر، أو أنّ كلّ شيء مكتوب فالتّوجيه أمر وأمّا القدر فأمر آخر. التّوجيه، هو المرافقة ومعرفة قراءة الأحداث وإدراك ما يريده الله، وبالتالي فعلى الإنسان أن يختار بين اتّباع نظام الله أو اتّباع نظام خاص به. أمّا القدر، هو اعتبار أنّ كلّ شيء مكتوب فنستسلم له بدون أيّ إرادة في التّغيير أو بحث عن إرادتنا الشّخصية انطلاقاً من الله في حلّ الأمور.
( 44،38:41)، أصبح الآن يوسف وزيراً أوّلاً، منصبه رفيع جدّاً وأعطاه الملك ختمه وولّاه على مصر. ولا ننسى أنّ مصر كانت أعظم دولة في العالم آنذاك، ويوسف بعد أن كان مدلّلاً في بيت أبيه، نزل إلى أدنى درجات العبوديّة، ومع أنّه كان بريئاً، ألقي به في السّجن. ولأنّه حافظ على الله في حياته، رفعه الله إلى أعلى المراتب.
تمتّع يوسف بالسّلطة والنّفوذ، ولكنّه رغم ذلك، حافظ على اتّزانه الرّوحيّ والإيمانيّ، ولا نراه ينتقم من إخوته. كان باستطاعته أن يعاقبهم ويعاملهم بالمثل، ولكنّه ورغم كلّ الألم والإحساس بالظّلم، يعلم أنّ الله وحده يحكم على الإنسان. وتعبّر الآية الثانية من الفصل 45، عن كلّ الألم الّذي اعتصر قلب يوسف، فمن شدّة حزنه سمعت بكاءه كلّ مصر. " أطلق صوته بالبكاء، فسمع المصريون وسمع بيت فرعون." ألم عميق ومرير يقابله رجاء كبير بمحبة الله. والآية الخامسة من نفس الفصل ترسم هذا الرّجاء، " لا تستاؤوا ولا تتأسّفوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنّ الله أرسلني أمامكم لأحفظ حياتكم " . لا يحمل أيّ قاموس في العالم كلمة واحدة تعبّر عن هذا النّبل، وعن هذا الوعي الإيمانيّ. إنّ المؤمن الحقيقيّ ، يرى في الصّعوبات الجانب الإيجابيّ الّذي هو "يد الله ". يوسف رفع إخوته إلى مستوى مشروع الله ، وبدل أن ينتقم منهم، رأى في هذا تدبيراً إلهيّاً. غفر يوسف لإخوته، والغفران ليس بالأمر السّهل والبسيط، لا بل قد يكون أصعب ما في الوجود. ولكن عندما نرى في أخينا صورة الله، ونرى في الأحداث تدبير الله، وندخل في مخطّطه يصبح الغفران مسألة سهلة وبديهيّة بنعمة الله. فالله الحاضر في القلوب هو الّذي يسامح ويغفر.
حياة يوسف تشمل إلى حدّ بعيد كلّ الصّعوبات الّتي نتعرّض لها، من ظلم وقهر وألم وحرمان وأسى...، ولكن لا ظلم ولا قهر ولا ألم ، ولا أيّة صعوبة في هذه الحياة تفصلنا عن نعمة الله ومحبّته. إن كنّا مؤمنين حقّاً باتّحاد الله فينا، وواعين ومدركين كلّ الإدراك أنّه حاضر أبداً وساهر علينا، فلا بدّ أن نواجه بصبر الإيمان أيّة محنة أو أزمة مهما كانت صعبة. لا بدّ أن نعبر بالغفران نحو الحبّ المطلق، فلا يعود يقيّدنا أي حقد وأيّ انتقام . يوم تشعر بالظّلم والأسى، بالألم والوجع، تحدّى الواقع المرير وقل مع يوسف: "أنت أيّها الواقع المؤلم، أردت بي شرّاً ولكنّ الله القدير، الحبّ المطلق، يريد بي خيرا".
مادونا عسكر/ لبنان