(1)
ألحياة مع الله ، ثقة بالحياة
مسيرة الإنسان الحياتيّة ، تتضمّن الكثير من الصّعوبات ، على المستوى الشّخصيّ والعائليّ والإجتماعيّ . وليست الحياة كلّها أفراح ، ولعلّه وجب علينا أن نشكر الله أنّنا لا نحيا دوماً حياة سعيدة ومرفّهة ، إذ إنّ الصّعوبات الّتي نمرّ بها ، تكوّن شخصنا وتصقلنا بالخبرات النّظريّة والعمليّة. فقيمة الإنسان الجوهريّة والحقيقيّة تكمن في ما اكتسب من خبرات في حياته وكيف استطاع أن ينمّي قدراته الفكريّة والنّفسيّة والرّوحيّة . وتأتي هذه الخبرات ، إذا ما تمّ الإستفادة منها ، والتّعلّم منها واستخراج الإيجابيّ منها ، ومعالجة السّلبيّ منها ، لتبني إنساناً متّزناً ، صلباً ، لا يضعف بسهولة أمام المحن ، ولا يستسلم للصّعوبات ، بل يواجه بكلّ شجاعة كلّ ريح يعصف في حياته .
ولا يكفي الإنسان أن يتسلّح بخبراته الشّخصيّة ، وموروثاته العائليّة والإجتماعيّة ، ما لم يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالمحبّة الإلهيّة . إذ لا بدّ من أن يكون الله محور الحياة الإنسانيّة ، فمنه يستمدّ الإنسان كلّ الطّاقة وكلّ الحبّ ، والصّبر والحكمة .
لو تأمّلنا بشكل سريع من حولنا ردّات فعل بعض النّاس ، فلسوف نميّز جيّداً بين من يستسلم أمام الصّعوبات وبين من يواجهها بكلّ شجاعة . ونرى أنّ من يواجهها هو من ارتبط بالمحبّة الإلهيّة بشكل وثيق وكان على علاقة حميمة مع الله . ولا ننفي هنا الضّعف البشريّ ، ولا حالات الحزن والتّعب والهمّ ، وإنّما هذه الحالات لا تشكّل إطاراً تشاؤميّاً أو واقعاً يائساً ، إذا ما كان محور الحياة هو " الله". أن يكون الله محور الحياة الإنسانيّة ، يعني أن يتسلّح الإنسان بكلّ الثّقة بأنّ الله يرعاه ويتدخّل في حلّ الأزمات ، ولكن بطريقته، التي علينا أن نحترم أنها تختلف عن طريقتنا ، ونقبل أنّ حكمة الله تختلف عن حكمتنا . هذه الثّقة هي الرّادع لكلّ يأس وتشاؤم ، وهي الرّجاء ، الأمل الأكيد ، بالرّحمة الإلهيّة الّتي تحيط الكون بأسره . وتؤكّد لنا هذه الثّقة أنّ الله ، أبونا ، يهتمّ بنا بشكل شخصيّ ، وفق ما يتناسب مع قدرة كلّ فرد منّا .
خير مثال للتعمّق في موضوع الثّقة بالله ، هو التّأمّل في سفر التّكوين (الفصل 37 إلى 45) الّذي يخبرنا عن يوسف الّذي باعوه إخوته ، وكيف أنّ الله ينتزع الخير من أحشاء الشّر ويجدّد كلّ الحياة الإنسانيّة.
يتحدّث آخر سفر التّكوين عن سيرة يوسف وخلافاً لما سبق، تجري هذه السّيرة دون أي تدخّل ظاهريّ لله ، ودون وحي جديد. إلّا أنّها بكاملها تعليم يتوضّح في الخاتمة (45/5.8). ويفيد بأنّ العناية الإلهيّة لا تأبه لمخطّطات البشر ، وتعرف كيف تحوّل نواياهم السّيّئة إلى الخير. فلا يقتصر الأمر على نجاة يوسف ، بل تصبح جريمة إخوته وسيلة في يد الله . فمجيء بني يعقوب إلى مصر يمهّد لتنشئة الشّعب المختار.
ألله لا يسيء إلى الإنسان ، ولكن وإن أساء الإنسان أمام الله بحقّ أخيه الإنسان ، فيد الله تمتدّ لتحوّل الشّرّ إلى كلّ الخير . علينا فقط أن نصبر بحكمة ، ونتعلّم قراءة الأحداث في حياتنا ، وننتظر بهدوء وطول أناة رحمة الرّبّ . ألله ، أب ، وليس ساحراً . ألله يربّينا ، يعلّمنا ويريدنا أقوياء بالحكمة ، محصّنين بالمحبّة ، متسلّحين بالثّقة به. ولاحقاً نكتشف أنّ ما مررنا به، كان ضروريّاً لحياتنا لنصبح ما نحن عليه اليوم .
تميّز يوسف أنّه عاش حياته مع الله ، وتمتّع بالتّقوى الّتي لم تكن متوفّرة عند إخوته . كما أنّه كان يمتلك المعرفة ، فالّذي يحيا مع الله يستنير بالمعرفة . ولا شكّ أنّ أحلامه دلّت على أنّ الرّبّ وراء مشروعه . ألرّبّ هو سيّد التّاريخ وهو الّذي يوجّهه ويرافق الأشخاص ، فلا خوف علينا .
يوسف الّذي يحيا مع الله ، يحيا الطّاعة . والطّاعة ليست أن أقول نعم وحسب، وإنّما هي النّعم عن ثقة . أطيع الله ليس لأنّني أخاف منه ، بل لأنني أثق أنّه يريد ما هو لخيري رغم أيّ ظرف يمرّ في حياتي . ودون أي تردّد أو شكّ ، اقول للرّب " ها أنا " .
(الفصل 37 الآية 12 إلى 15) يرسل يعقوب يوسف إلى إخوته ليرعوا الغنم . وصادف يوسف رجلاً ، ولا نعرف من هو وكذلك يوسف وإخوته ، وسأله عن مكان إخوته ، فقال له أنّه سمعهم يقولون أنّهم ذاهبون إلى ( دوثان ) . هذا الرّجل ، وإن دلّ حضوره على شيء ، فهو يدلّ على حضور الرّبّ حتّى في الأشياء الصّغيرة كما في الكبيرة . نعتقد أنّ الرّبّ يتواجد في حياتنا بشكل متقطّع، أو بمعنى أصح ، لا ننتبه لحضوره إلّا في أوقات معيّنة . مع أنّنا نحن في فكر الله قبل أن يخلقنا ، ويبقى معنا إلى الأبد . كما الأمّ ترافق أبناءها في التّفاصيل الصّغيرة والكبيرة ، كذا لا تغفل عين الله عنّا . يتابع الله أعمال البشر ، وخطايانا لا تعيق مشروعه ، ربّما تؤخّره ولكنّها لا توقفه ولا تعطّله ، لأنّ الله يريد حرّيّة الإنسان .
(الفصل 37 الآية 18 إلى 20) . امتلك الحقد والحسد قلوب الإخوة ، وهاتان الصّفتان تعميان بصيرة الإنسان ، فيرى أدنى تفصيل في أخيه بشع ومقيت . وكأنّ الإخوة ينتظرون فرصة للتّخلّص من يوسف . هو المميّز عند أبيه يعقوب ، وذاك الحلم الّذي رأى فيه يوسف أنّهم يحزمون حزماً في الحقل ، فوقعت حزمته بغتة وانتصبت ثمّ أحاطت بها حزم الإخوة وسجدت لها . (37/5.8 ) . فهم الإخوة الحلم ، وأخذوه على محمل الجدّ ، وغضبوا ، وأرادوا التّخلّص من يوسف . هذه المرحلة وإن قرأناها بتأنٍّ ، نفهم ما هو أساسيّ لكلّ منّا ، ألا وهو احترام عطايا الله لكلّ إنسان . انطلاقاً من ثقتنا بالله ومحبّتنا له ، نقبل انّ الآخر يمتلك ما يميّزه عنّا ، وبالتّالي نتعلّم منه . ذلك لأنّنا نثق بعطايا الله لنا ، ونعرف قدراتنا فنسعى إلى تطويرها، والتّفاعل بها مع الآخر . عندما نكتشف قدراتنا ومواهبنا ، نتعلّم كيف نساهم في تحقيق مشروع الله ، وبالتّالي نتحدّى الصّعوبات والآلام ، ولا نستغلّ قدرات الغير بشكل سلبيّ ، ولا نحاول التّخلّص منه لأنّ تميّزه يعيقنا . ألحسود يرى في أخيه مقدّراته ، ولكنّه لا يعترف بها لا بل يتمنّاها لنفسه، ويغيب عن باله أن يكتشف مميّزاته الشّخصية التي تكمّل مميّزات أخيه .
إذاً ، الإخوة خطّطوا لجريمة كاملة : قتل يوسف ثمّ رميه في إحدى الآبار والإدّعاء بأنّ وحشاً افترسه .
خاف رأوبين من الله : " لا نقتل نفساً " . وهذا يعني أنّه مدرك أنّ ما يقوم به وإخوته شنيع جدّاً ومرفوض من الله . ولكنّ رأوبين لا يثق بالله وإنّما يخاف من الله . وهناك فرق شاسع. الخوف من الله يردع الإنسان عن فعل عمل قبيح بداعي الخوف ، وما إن ينتفي الخوف سيقدم الإنسان على العمل . أمّا الثّقة فتنبع من القلب . فلا نُقْدِمَنَّ على عمل سيّء ، لأنّنا لا نريد ان نحزن قلب من نحبّ، " الله" .
اقترح رأوبين أن يرموه في البئر ، على أن يعيده إلى أبيه . ولمّا عاد ليأخذه لم يجده . أمّا الإخوة فقالوا ليعقوب " وجدنا هذا ، فتحقّق أقميص ابنك أم لا ؟ " . إبنك - وليس أخينا – هم فصلوا يوسف عنهم منذ اللّحظة الأولى الّتي شعروا فيها بالحسد والبغض تجاهه .
نرى من خلال ما سردنا ، بدء معاناة يوسف ، والألم في نفسه من ظلم إخوته ، والخطر المحدق به ، والذّي ينتظره في مصر . إنّه وحده في هذه الأزمة الصّعبة والخبرة المؤلمة ، ولكنّ سنرى كيف أنّ يوسف لم ينسب شرّ إخوته إلى الله ، بل ظلّ واثقاً رغم المحن ، بأنّ يد الله ستمتدّ لخلاصه ، لا بل لرفعه إلى أعلى المراتب .
نمرّ في حياتنا بما مرّ به يوسف من ظلم ، وأسى وألم ، باختلاف الأحداث والأزمات . ولكنّ علينا أن نستخدم قدراتنا ولو كانت ضئيلة في نظرنا ، ونضعها بين يديّ الله واثقين أنّه معنا.
ربّما نضعف في المحن وننسى الله لأنّنا لا نثق أنّه يحيطنا ويسهر علينا ، وننسى أنّه أب . وننسب إليه سلوك الإنسان الشّرير . نريد أن يستخدم طرقنا ، وطرقنا لا توصلنا إلى أي مكان. فطرق الرّبّ وحدها توصلنا إلى برّ الأمان والسّلام .