(2)
"رذله البنّاؤون فصار رأس الزّاوية في بناء بيت أبيه"
" كان الرّبّ مع يوسف " (39/2) ، لأنّ يوسف كان مع الرّبّ . الرّبّ حاضر دائماً ولكنّ على الإنسان أن يقبل هذا الحضور بشكل مستمرّ ، مدركاً أنّ كلّ خطوة في حياته ، هي تحت نظر الرّبّ . وأقام يوسف في بيت سيّده ، ما هو مميّز جدّاً . ويشير هذا إلى تعويض الرّبّ لحظة بلحظة عمّا يعانيه الإنسان . يوسف ، كما ذكرنا ، لم ينسب شرّ إخوته إلى الله ، وأبقى على الله في حياته . ونرى ذلك جليّاً ، عندما أٌغرمت به زوجة فوطيفار ، ورفض ان يزني معها . لا يمكن للإنسان الّذي يحيا مع الله إلّا أن يشعّ على من حوله . فيصبح كلّ تصرّف في حياته مبارك من الله . ونرى كيف أنّ فوطيفار ، أقام يوسف على بيته وأوكله كلّ شيء. والرّبّ بارك بيت المصريّ بسبب يوسف . فالمؤمن يتشفّع لإخوته من خلال صلاته واتّحاده بالله ، ويكون بركة الله في حياة الآخرين .
رغم كلّ الألم ، ثابر يوسف على اتّحاده بالله . ولم يتحوّل إلى التّهجّم على الله ، ولم ينوح ويعاتب الله . بل ازداد ثقة به ، لأنّه كان يقرأ كلّ حدث في حياته على أنّه عناية إلهيّة. زوجة فوطيفار لم تفهم أنّ يوسف لا يريد استغلال سيّده ، وإنّما اعتبرت أنّه يهين كرامتها ، فطلبت من زوجها أن يرميه في السّجن . وحتّى عندما ألقي في السّجن ، حفظ يوسف مكان الرّبّ في حياته ، فنال حظوة عند رئيس السّجن وسلّمه جميع السّجناء .
إنّ قدرة احتمالنا للصّعوبات تكمن في فهمنا ووعينا لأهميّتنا في مخطط الله الخلاصيّ ، فنقتبل كلّ شيء ونحفظه في قلبنا ، متامّلين الأحداث ، مستخرجين منها قصد الله .
في الفصل (41/1.36 ) نرى يوسف يفسّر الحلم لفرعون انطلاقاً من الله ، وهنا الحلم يدلّ على أنّ الله يوجّه البشريّة كلّها . مبدأ الحلم ، هو نظرة الله إلى كلّ ما سيأتي من أمور ، لأنّ العناية الإلهيّة ترسل يوسف ليس ليخلّص إخوته من الجوع الّذي سيفتك بمصر وحسب ، وإنّما ليخلّص مصر كلّها . ألرّبّ الّذي وجّه حياة يوسف ، يوجّه حياة مصر ، وحياة شعوب العالم كلّه ، ليقول أنّه هو وهو وحده يعطي ويوجّه ، ويرافق في كلّ المحن والصّعوبات . وهذا لا يعني أنّ الإنسان مسيّر ، أو كلّ شيء مكتوب . التّوجيه شيء ، أمّا القدر فشيء آخر . ألتّوجيه ، هو المرافقة ومعرفة قراءة الأحداث وإدراك ما يريده الله . وبالتالي فعلى الإنسان أن يختار بين اتّباع نظام الله أو اتّباع نظام خاص به . أمّا القدر ، هو أن نعتبر أنّ كلّ شيء مكتوب ونستسلم له بدون أيّ إرادة في التّغيير أو البحث عن إرادتنا الشّخصية انطلاقاً من الله في حلّ الأمور .
أصبح الآن يوسف وزيراً أوّلاً ، منصبه رفيع جدّاً وأعطاه الملك ختمه . ولا ننسى أنّ مصر كانت أعظم دولة في العالم آنذاك . ويوسف بعد أن كان مدلّلاً في بيت أبيه ، نزل إلى أدنى درجات العبوديّة ، ومع أنّه كان بريئاً ، ألقي به في السّجن . ولأنّه حافظ على الله في حياته ، رفعه الله إلى اعلى المراتب .
تمتّع يوسف بالسّلطة والنّفوذ ، ولكنّه رغم ذلك ، حافظ على اتّزانه الرّوحيّ والإيمانيّ ، ولا نراه ينتقم من إخوته . كان باستطاعته أن يعاقبهم ويعاملهم بالمثل ، ولكنّه ورغم كلّ الألم والإحساس بالظّلم ، يعلم أنّ الله وحده يحكم على الإنسان . وتعبّر الآية الثانية من الفصل 45، عن كلّ الألم الّذي اعتصر قلب يوسف ، فمن شدّة حزنه سمعت بكاءه كلّ مصر . ألم عميق، مرير يقابله رجاء كبير بمحبة الله . والآية 5 ترسم هذا الرّجاء ، " لا تستاؤوا ولا تتأسّفوا لأنكم بعتموني إلى هنا ، لأنّ الله أرسلني امامكم لأحفظ حياتكم " . لا يحمل أيّ قاموس في العالم كلمة واحدة تعبّر عن هذا النّبل ، وعن هذا الوعي الإيمانيّ . إنّ المؤمن الحقيقيّ ، يرى في الصّعوبات الجانب الإيجابيّ الّذي هو "يد الله " . يوسف رفع إخوته إلى مستوى مشروع الله ، وبدل أن ينتقم منهم ، رأى في هذا تدبيراً إلهيّاً . غفر يوسف لإخوته ، والغفران ليس بالأمر السّهل والبسيط ، لا بل قد يكون أصعب ما في الوجود . ولكن عندما نرى في أخينا صورة الله، ونرى في الأحداث تدبير الله ، وندخل في مخطّطه يصبح الغفران مسألة سهلة وبديهيّة بنعمة الله . فالله الحاضر في القلوب هو الّذي يسامح ويغفر.
حياة يوسف تشمل إلى حدّ بعيد كلّ الصّعوبات الّتي نتعرّض لها ، من ظلم وقهر وألم وحرمان ... . ولكنّ لا ظلم ولا قهر ولا ألم ، ولا أيّة صعوبة في هذه الحياة تفصلنا عن نعمة الله ومحبّته . إن كنّا مؤمنين حقّاً باتّحاد الله فينا ، وواعين ومدركين كلّ الإدراك أنّه حاضر أبداً، ساهر علينا ، فلا بدّ أن نواجه بصبر الإيمان أيّة محنة أو أزمة مهما كانت صعبة . لا بدّ أن نعبر بالغفران نحو الحبّ المطلق ، فلا يعود يقيّدنا أي حقد وأيّ انتقام .
يوم تشعر بالظّلم والأسى ، بالألم والوجع ، تحدّى الواقع المرير وقل مع يوسف : " أنت أيّها الواقع المؤلم ، والموجع أنت أردت بي شرّاً ولكنّ الله القدير ، الحبّ المطلق ، أراد بي خيرا".