كلمة للمطران جورج خضر في انتقال ابونا الياس
حيّ هو الله الذي آنا واقف أمامه
”. عندما كان شفيع أخينا الأرشمندريت الياس النبي ايليا يقاوم الدنيا في سبيل الله. الدنيا آنذاك ألحدت وعبدت الأصنام. وقف هذا النبي الفقير الجائع أمام ملك بلاده وملكتها ليقول للكون: “حي هو الله”. ليس احد قبل الله، ليس من ملوك وعظماء. هناك كائن واحد هو الله وانا عبده ورسوله الى هذه الأمة التي كلفني بها بالنبوّة. الشاب الياس مرقس الذي عاش في لاذقية العرب رأى ان الوهن قد أصاب شعبنا هذا المدعو ان يكون مستقيم الرأي والتمجيد، فكتب لصديق له قائلا: نحن مدعوون ان نقوّم هذا الشعب الذي يحسب نفسه قويم.
إذًا منذ مطلع تحسسه الروحي كان يناضل في سبيل المسيح بلا تكليف منظور، بلا ثوب، لأنه لم يستطع ان يطيق هذه الأمة المقدسة تتدهور في خطاياها وجهلها. كتب الى صديقه الذي كان في المَصيف: نحن نريد ان نقوّم الأمة الأرثوذكسية بإنجيل يسوع المسيح بحبّه وطاعته لأننا نريد شعبنا كنيسة. نريد الأمّة متلألئة بالروح، ملتهبة بالحب الالهي، عاشقة لهذا الذي أعلن عشقه لها، الذي سُمّر على الخشبة.
الياس مرقس فهم شيئين في هذا الموقف المُعَبَّر عنه في هذه الرسالة. فهم انه مدعوّ ان يجمّل نفسه بالفضائل، وان كلّ واحد من إخوتنا مدعو الى هذا، لأننا في الماضي كنا نتذمر وكنا ننم وننتقد الرئاسات الروحية ونظنُّ اننا بهذه الثرثرة سوف ننهض بشعبنا، الى ان وعى هذا الشاب ان القضية هي ان تميت شهواتك ليحق لك ان تتكلم وأن توجَد.
لم يكتفِ بتنقية ذاته، هذا وحده انغلاق. يجب تطهير الآخرين بحب يسوع. امتدّ اذًا الى الآخرين ليتمكن من الوصول الى الرب. بعد هذا رأى ان عندنا نموذجًا للتنقية وهو الرهبانية، ليست انها الوسيلة الوحيدة للتطهر ولكنها وسيلة اعتبرتها كنيستنا نموذجية. فجاء الى هذا المكان. ومهّد لمجيء بعض من رفقائه من سوريا ولبنان. فبيّن ان الشركة الرهبانية ليست وحدها النموذج ولكن الانسان الفرد الذي صادق المسيح هو النموذج. قرأ، وأرجو ان نصبح جميعا قرّاء للكلمة الإلهية، لأن كنيستنا كنيسة الكلمة التي تنزل عليك من الله أقنومًا ثانيًا من الثالوث القدوس. “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وإلهًا كان الكلمة”.
يتبادر الى ذهني عندما تنشأ مؤسسة انها بحاجة الى تنظيم، الى زراعة، الى اقتصاد، الى كتابة. ولكن المسجّى أمامنا في حضرة ربّه فهم ان ليس من مؤسسة، هناك أشخاص، محبّون لله، راغبون في التطهر، مناضلون فيما هم يصعدون على سلّم الفضائل. لأنك إن رأيت ان الله هو كل شيء، كما رأى ايليا النبي، تطمح ان تصيـر مثل الله. نحن لا نكتفي ان نكون بشر أوادم. نحن نريد ان نكون آلهة. هذا في كتب آبائنا.
أراد هذا الإنسان الذي أوغل في التواضع، ان يكون حبيب الله، شاهدًا لكلمته، مُمدًا إخوته بها، غير معتدّ بفضيلة عنده، منسحقًا حتى النهاية لأن التواضع هو ان تصير إنسانًا ممحوًا في حضرة الله. لأن من ظن نفسه شيئًا، على قول الرسول، ليس بشيء. الياس مرقس ظن نفسه لا شيء ولذلك استطاع، على الصعوبات الجمة، ان يجمع هذا القطيع الصغير في هذا المكان العالي. استطاع بنعمة الله، مستورًا بتواضعه، لا يقرأ تواضعه، يقرأه الناس، قرأناه نحن. ولذلك أراد أن يكون مشروع قديس. هذا الشيء الوحيد الذي يستحق أن نجاهد في سبيله.
ولم يحل هذا دون فرحه الدائم. كان يحس بأن المسيحية فرح. ولكن الفرح يقتضي جهادًا مريرًا. لا تستطيع ان تتصاعد الى الحضرة الإلهية ما لم تتيقن انك لا شيء. هذّبَ مَن هذّبْ. ألحّ عليهم ان ليس من مشاركة بينهم الا الرب يسوع. وبقي يصارع حتى النهاية على روح مداعبة. ولكن دائمًا بلا دينونة على أحد... انك إن كنتَ حبيب الله فهو يعفيك من المحاكمة قبل ان تقع عليك الدينونة. أعفي رئيس هذا البيت، الاب الياس من المحاكمة. ولذا يحق لنا ولحبنا أن نستشفعه على رجاء قيامته وقيامتنا والحياة الأبدية.
هذا المكان جدد الرهبانية عند الرجال. هو ورفقائه، من ارتحل منهم ومن استُبقي، قالوا، تساءلوا: ما الرهبانية في العمق، في التعريف اللاهوتي الصميمي؟ هي أن يشدَّ الإنسان نفسَه الى الحياة الأبدية وكأن هذه الدنيا في أطايبها ولذائذها غير موجودة. نحن منذ الآن نتجنّد متكلين على الله، نتجنّد لكي يأخذ الله أبصارنا الى الملكوت منذ الآن... حاول هذا الأخ الطيب هذا الفكر وهذه الممارسة بتواضع، بانكفاء، بانسحاق، بمحبة لا توصف لإخوته ولنا جميعًا، بانحناء دائم أمام وجه الله، ولذلك كنّا نؤمّ هذا الدير لنتعلّم التواضع، لنتعلّم ان ليس أحدًا الا الله، وان نقول هذا لعظماء هذا الدهر، وان نغدو بسطاء مكتفين بالنعمة الإلهية والكلمة الإلهية. سيقول له الله بلا دينونة: جعلتك أمينًا على نخبة صغيرة من الرجال، من الرهبان، سأقيمك على الكثير.
ادخل الى فرح ربّك حتى يؤمن الناس ان ليس سوى وجه الله في الكون، واننا اذا شددنا على هذا الوجه نكون مقلدين الارشمندريت الياس، ولو في حدود معينة. نكون مشتاقين الى الرؤية العظيمة لنموت على استقامة الرأي وعظمة التمجيد ممهدين هنا لدخولنا الى اورشليم السماوية.
الا كان الله معكم جميعا وعزّى قلوبكم . آمين