الله محبة
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 01/21/2012
الكلام في ذات الله غير وارد في المسيحية الشرقيّة اذ يقول عنه كل تراثها انه فائق الجوهر وغير قابل للإدراك وإدراكه هو الوصول إلى جوهره واذا وصلت إلى هذا تصيره فيختلط الخالق بالمخلوق وهذا محال ومع هذا ينبغي ان تتصل فاذا انتفى هذا تنتفي الربوبيّة فبلا تواصل الرب ربَّ من يكون.
قبل ان نصل إلى التوحيد يجعل افلاطون الإله "فكرة الأفكار" فيجعل لكل موجود مثالا أو فكرة في "السماء" ويأتي الله جامعا لهذه الفِكَر أو ذروتها. اما عند تلميذه أرسطو فالله هو علّة العلل ولكنه لا يتحرّك. التوحيد العبري ينقلنا إلى جو آخر يعبّر عنه قول سفر الخروج: "قال موسى لله: ها أنا ذاهب إلى بني اسرائيل فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني اليكم فإن قالوا ما اسمه. فماذا أقول لهم؟" (خروج 3: 13). فقال الله لموسى. أنا يهوه. في الترجمة اليونانية: "أنا الكائن". أعود إلى الأصل العبري لأن يهوه (الاسم الذي اتخذه الله) فعل مضارع وليس اسما ويعني "أنا هو من هو" أو أيضا: "أنا هو من سأكون" اي انه يعرّف عن نفسه بالحركة في شعبه. هذا ليس تعريفا للذات ولكن للعمل الالهي. بهذا المعنى قال الله لإبراهيم: "وأقيم عهدًا بيني وبينك... فأكون لك إلهًا" (تكوين 17: 17). ليس هذا كلاما عن الذات القائمة في جوهرها. انه حديث عن مرافقة الله لإبراهيم ضمن العهد في هذا السياق "فأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا" (ارميا 7: 23). وأمثال ذلك في حزقيال ولوقا والأعمال، والمراد بما ورد في ارميا ان كينونتي لكم إلها اني التفت اليكم اليوم وغدا واذا عرفتموني إلها لكم تصيرون لي. اي كما أنا متحرك اليكم بعنايتي ورفقي وحناني تصيرون أنتم متحركين نحوي بالطاعة. وحدكم بلا إله عاطف أنتم مجرّد جمهور بالمعنى المجتمعي ككل جمهور آخر وليس لكم كيان الا برحمتي. في عبارة شعب الله المضاف اليه الله. الله يُعرف في علاقته ولا يُعرف في ذاته. كل هذا يتكرّر بعبارات مثل إله إبراهيم واسحق ويعقوب أو إله اسرائيل أو إله الجنود أو إله آبائنا.
في سلوك الله مع شعبه تفهم صفات الرب (بار، عادل، مقتدر، راعٍ، عريس، أب، أم). كل شيء يقوم به الله علاقة. حتى صفة "الخالقية" صفة علاقة اذ يفتتح سفر التكوين بقوله: "في البدء خلق الله السماوات والأرض". لعلّ من أفصح ما قيل عن الله انه "أبو ربّنا يسوع المسيح" (أفسس 1: 3 و2 كورنثوس 1: 3). هذا تعريف حركي أيضًا.
هنا نواجه ما يمكن اعتباره لأول وهلة وصفًا لله وهو قوله: "الله محبة". في رسالة يوحنا الأولى الجامعة بعد ان يقول: "المحبة من الله سيقول: الله محبة" 4: 8.
زعمي ان المحبة ليست صفة من صفات الله. هي اسمه. هي اياه. انها تعطي مضمونا لكلمة الله وتعبر عن حركته بالمسيح وبالقداسة.المحبة هي البداءة في الآب التي منها جاء الابن والروح القدس.
الآب هو الكائن قبل الأزل وهو مع ابنه وروحه في وحدانية هي المحبة. والوحدانية عمق الإله وليست رقما ولا يقع عليها الحساب. المحبة هي الوحدانية المتحرّكة التي تحيي البشر والله لصيق بالبشر منذ خلقهم وهم به يقومون اذا أحبوه من جهة وأحبوا بعضهم بعضًا. فاذا سكنوا فيها يكونون ساكنين في الله فلا يعوزهم الا ان تسكنهم ويسكنوا اليها فتزول الهوّة بين السماء والأرض.
ولكون المحبة كاملة يلغي الله الآلهة الكاذبة التي اصطنعتها شهوات الإنسان. وهذه هي الصنميّة بالذات انك تعتمد شهواتك مصادر للحياة فتصبح أوثانا قتالة فتقول مع نيتشه "الله مات" وهو الحيّ القيّوم الذي يحيي الوجود.
لكن حياة الله المتجددة فيك تقتضي ان تحارب الآلهة الكاذبة التي قبلت أنت ان تتكون منها وهي تزرع الموت الروحي فيك لأنها تمنعك عن المحبة.
هذه اذا ذقتها حقا تصبح عشير الله. نحن في معاشرته في الكلمة التي ينطق بها فينا فنصبح اياها وتصبح ايانا فاذا بمعاشرتنا الله نغدو روحا واحدا معه كما يقول بولس ولا نبقى مشتهين لغير وجهه هذا الذي ما تقناه ترتسم علينا أنواره.
اذا فهمت أنت ذلك تبطل الصفات الكاذبة التي نسبتها الأجيال إلى الله عن طبيعة سلوكه مع شعبه وتبدأ بفهم المحبة النازلة عليك وتنفي عن الله كل ما يناقضه.
لا تبقى أسير كلمات مألوفة تنتج فيك الموت الروحي. لا تنظر إلى الله معاقبا كشرطي أو باعثا اليك بأمراض أو قاتلا اياك بحادثة على الطريق.أنت تموت بسبب من الخوف. والخوف يجعل الله عدوّ الحياة. الحياة في معناها الجسدي والروحي هبة من الله ليس فقط منذ خلقه ايانا ولكن باستمرار محبته جيلا بعد جيل.
إلى هذا ليس الرب ما يصوّره الانسان. هو يصوّر الانسان. ولذلك الخطأ في ان نرى إلى صفات البشر السيئة ونعكسها على الله كإرادة الموت. أنا اعرف ناسا ينسبون اليه تصميم اذى حل بهذا أو ذاك. الله لا يؤذي أحدا ولا يدخل جرثومة في انسان. كل ما يصدر عنه خير وصلاح وحق وإحسان.
الرب نقي ويجب ان تنقّي عقلك من كل ما يسيء إلى اقبالك عليه لأنك لا تكون قد استمتعت بالمحبة التي تنزل عليك منه.
كلّ ما عدا المحبة مملكة الخطيئة "وأجرة الخطيئة هي موت". أقصِ عنك الموت بالمحبة لتصير ابنا للنور فالمحبة وحدها ترميك على النور.
قرّر صادقًا الا يصدر عنك ما يحرج المحبة فيك وفي الآخرين. هذا هو الضياء كله بعد هذا لا تسأل عن تعب يدهمك أو عن تجربة تغريك. المحبة تغسل كلّ السيئات الصادرة عن الفساد الذي يحيط بك وعن الفاسدين.أحبب هؤلاء أيضا واغفر لهم لأنهم اذا ذاقوا الحب الإلهي المعطى لهم منك يكتشفون شيئا لم يحلموا به من قبل. هناك إمكان لإنسانية جديدة ينزل أهلها بيننا من السماء.