الأعيـــاد
العيد كسر الزمان المكرور، خروج الى المطلق، الى المأمول، الى الفرح، الى مشاركة أهل الأمة احتساباً لما تصير اليه اذا عانقت الله. الثياب الجديدة وأكل الطيبات صورة عن الجمالات الروحية التي تنزل علينا بالتعييد.
كل الشعوب على مختلف أعيادها تقطع زمانها المتكرر بأعياد. غير ان المسيحية أعطت العيد سعة ورحابة نادرتين. بادئ بدء تقحم الحياة الأبدية في كل يوم من أيام السنة اذ ليس من يوم واحد ليس فيه احتفال بما يتعلق بسيرة المسيح أو قديس أو مجموعة قديسين. وكل قديس مروية اعماله في كتاب يُدعى السنكسار تعود اليه ان اقتنيته كل يوم لمعرفة السيرة وتتقدس بها. من هذه الزاوية في كل يوم خروج عن زمنيته لتعود الى عظمة التقوى ووجوه البر الذي مارسه المُحتَفل به في عبادة ذلك اليوم. لا تطيق انت شبه اليوم بما يتلوه أو يسبقه. تشد نفسك الى القداسة التي لا يحبسها زمان.
العيد اذاً يمنحك حرية من يومياتك وأيامك لتلتقيه، اذا تحررت من وطأة يومك تذهب الى يوم الذكرى التي تقيم. هذه مسيرة لك في التاريخ. تجعل الماضي حاضرا فيك وفي الجماعة. هذا ما اعتدنا أخيراً ان نسميه تأوينا وهي ان تقيم الماضي في الآن الذي تحياه كأنه ليس بينهما زمان. وهذا ليس مجرد تذكر أو تخيل. انت تعيش الماضي في الحاضر فلا يبقي في وجدانك ماضيا. انت تختبر الواقع اليوم.
هذا لا يمكن حصوله الا في تحرك روحي فيك. ولذلك كان العيد حدثا تذوقه الجماعة اليوم. جملةً، هذا يحتاج الى قداس أو احتفال يشبهه. وتتوق انت الى عودة الموسم طلبا للتجليات في كل سنة. والاساس عندك ان عودة التجليات هي الوحدة التي تفوق الزمن اذ تأبى ان تستأخر الابدية.
***
الفرح مولد الفرح فكما كان العيد تلقيا يكون ايضا سباقا في الذوق لما يأتي أي كما كان تأوينا يصير ايضا اخرويا لأن الاتي هو الملكوت دائما فإن وجه الله سوف يطل عليك. اذ ذاك الأعياد حضور الله في الآن الذي يتجدد فيك وفي الجماعة.
انت تحيا الموسم مع الجماعة التي في تماسكها تتلقى المعنى الأبدي وتمتد الى المستقبلات التي تصير سماوية.
لا بهاء لعيد لا تكون مشاركا فيه بالتوبة فالموسم حاصل في القلب اذ القلب مكان لقاء الله والمواسم الله مضمونها أو ليست بشيء.
هنا يختلف العيد الديني عن العيد الوطني أو المدني بعامة فهذا اصلا مجرد انتقال بالذاكرة الى الماضي وحقيقته هي الحنين. اما الذكرى القائمة على الإيمان والتي تعيش بالإيمان فحقيقتها الذوق الالهي فينا فاننا معيدون بالنعمة. بكلام آخر الرب الذي فينا يعيد لنفسه.
***
ماذا يهدد الأعياد؟ غياب الله عن قلوب الناس يشوه الأعياد ويغير طبيعتها. عندما يصير عيد الميلاد عيد الأولاد أو العائلة لا تبقى له علاقة بمولود بيت لحم. يكون جاءنا عيد آخر. ليس عندي أي اعتراض على عيد للأولاد أو للعائلة ولا على سهرات هذه مع طيبات الطعام. أقول فقط هذا لا علاقة له بالميلاد. في الكتاب: "اسهروا وصلوا" (متى 26: 41).
لا تعرف المسيحية سهر اللهو سابقا للعيد. هناك أطعمة مرافقة للأعياد. هذا لم تمنع الكنيسة أبناءها عنه لأن الحياة المجتمعية العادية تحمل فرح العيد على الا يكون على الطعام التركيز. كل شيء جميل محاط بالخطر. لذلك يجب ان نحرص حرصا شديدا على ان تأتي علينا أعيادنا إلهية أي فرحا بالله وقديسيه حتى لا ينزل عليها اللهو سلطانا ويفسدها ويفسدنا بها.
***
أجيء من بيت بسيط ومتواضع يقيم الأعياد الكبرى والصغرى لئلا يفوته تقديس. والتقديس في هذه العائلة مكنون في الأيقونات وفي ترتيل اصولي رخيم ورثته امي عن والدها وأورثته في الكنيسة.
الى ذلك كان والديّ يتلوان الصلاة الربية بما كان يُسمى في ذلك الجيل اللغة الروسية التي تعلمها فريق من ابناء كنيستنا المتواضعين وكان اولاد الأكابر كما نسميهم يدرسون على الفرنجة من الرهبان ونحن صغار القوم تأصلنا في مشرقية العائلة ولو تفرنسنا بعمق ما أتاح لنا ان نعبر بفرنسية بليغة عن تراث انطاكية عاصمة بلادنا القديمة وقلب المسيحية قبل فتح العرب لأراضينا.
ولدت في هذا الجو في البيت حسب الأعراف القديمة. وكانت امي ملازمة الفراش لما دخل عليها أبوها مرة بين أواخر تموز وأوائل آب ورأى بيت اهلي مملوءا امتعة معدة لنقلها الى الجبل فسأل امي ما هذا فأجابت نحن صاعدون الى المصيف فقال لها عني: ولكن هذا الولد غير معمد فأجابت: قررت تعميده في تشرين عند عودتنا. قال لها: هذا كلام من الدنيا، هبي ان الصبي أصابه عارض صحي. "كيف نرنم للرب في ارض غربة" (المزمور 136). اضطرت والدتي ان تطيع ونودي للكاهن فحضر مع كل مستلزمات العماد وعمدني على استقامة الرأي.
حاولت ان أفهم طوال حياتي اني جئت من هذا الوقت مع أعياده.