ملكوت السموات سيادة المطران جورج خضر
"توبوا فقد اقترب ملكوت السموات"
قالها يسوع في بدء بشارته. المراد بهذا ان الملكوت حلّ بمجيء الملك اي يسوع.
في الحقيقة ان الملكوت جاء بموته على الخشبة وأخذ الانسان يحبه اي اخذ الإنسان يرى الملكوت في جسد الناصري الممزّق. هل من ملكوت ممكن بلا ذاك الدم، هل نتكوّن من غير الألوهة المسكوبة؟ يقول علماء الكلام اللاهوتي عندنا ان الكنيسة نشأت منذ حلول الروح القدس على التلاميذ لما اجتمعوا في العلية خوفا من اليهود فخرجوا منها يتكلّمون بألسنة أنزلها الله عليهم اذ ان لغتهم كانت، اذذاك، كلمة الله عينها فانتفت منهم عبودية اللحم والدم وما ينتجانه من فكر فباتت عقولهم عقل الله نفسه وقلوبهم غدت قلب الله. ملكوت الله يعني ان ليس هناك عبيد. "الذي يصنع الخطيئة عبد للخطيئة" (يوحنا 34:8). يحل الملكوت اذا بطل العبد عبدا واذا صرنا جميعا ملوكا. هكذا صاحب سفر الرؤيا يرانا متوّجين في حضرة الإله الملك اي لم يبقَ المخلوق دون الخالق جلالا ولو بقيت المخلوقية دون الخالقية في الجوهر. المهم الجلال.
هناك موقع واحد في الكون يتحد فيه الإنسان بالرب اتحادا كاملا وهو القداس الإلهي اذ تأكل انت جسد الرب ويأكلك فتصيران واحدا لا في فناء لكن في حبّ. طبعا هناك مشكلة كبيرة بين المحب والمحبوب ولكن العقيدة تقول ان الله متعالٍ ولو كنّا اليه بمحبته لنا وبمحبتنا له.
في اي مدى يمتدّ ملكوت الله؟ هل له حيّز او زمان؟ اول ما يتحتّم تأكيده ان السيّد لما قال: "توبوا فقد اقترب ملكوت السموات" عنى ان الملكوت جاء بالملك وفي الملك اي هو. الى هذا يقول المعلّم في لوقا: "ملكوت الله في داخلكم". اي ليس عندنا حيز. واذا قال: "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات" في متى فيدلّ على حالة روحية تبدأ هنا بالحصول على الفضيلة التي تلازم الميت بعد موته ان بقي عليها. وطبعا فوق ليس من حيّز لأن الله ان قلنا عنه انه في كلّ مكان نعني انه لا يحدّه مكان بمعنى ان مقولة المكانية لا تنطبق عليه.
سيادة الله هي التنزه عن المكانية. والذين يتوفاهم من موت لا ينقلهم الى موضع من مواضع سيادته فإن هذا تعبير في قداس يوحنا الذهبي الفم للدلالة على ان الألوهة تضمّ كلّ شيء اليها ولا شيء يتغيّر موضعه اذا ضمّه الله اليه.انت في الملكوت تعني لنا انك ملكوتي اي ان الله سيّد عليك وفي ابعد رؤية ان ليس من مدى او من زمان فيك خارج عن سيادة الله عليك.
والزمان هنا لا يحد امتلاكك من الله. عندما نقول: "ليأتِ ملكوتك" لا يتضمّن هذا انه ما أتى انما يعني انه دائما آتٍ. فالمسيح "كان وكائن وسيكون". عندما يختم بولس الرسول رسالته الأولى الى أهل كورنثوس بالعبارة الآرامية "ماران أثا" مكتوبة بالحروف اليونانية المتلاصقة لا نعرف ان كتبها ماران أثا اي الرب أتى او كتب "مارانا ثَ" اي يا رب تعال. ترجيحي انه أراد فعل الأمر اي تمني عودة المسيح لأن هذا هو المعنى الوارد في آخر سفر الرؤيا (17:22).
نحن اذًا في الملكوت الذي جاء بالمسيح ونحن ايضًا اليه اذ نطلبه في الصلاة الربيّة ونؤمن انه يجيء الينا بالقرابين المقدسة اذ نقول عنها في القداس البيزنطي انها "كمال ملكوت السموات". كيف نقول ان هذه القرابين هي الكمال وبعد قليل نطلب ان نشترك بحضور المسيح الأول (ايمانا) وبحضوره الثاني (رجاءً). كل شيء على هذا الصعيد كان وكائن (مستمر) وسيكون.
سؤال شغل اللاهوتيين المسيحيين. اين الكنيسة من كل هذا؟ هل هي الملكوت؟ هل الملكوت فيها؟ الجواب الذي اجترئ عليه ان الكنيسة التي هي جسد المسيح لها علاقة ما بهذا الملكوت. لكن الكنيسة ليست فقط جسد المسيح اي امتداد كيانه. انها ايضا بشر، مؤلّفة من بشر يتلقون روح الله بمقدار واحيانا يتلقون قليلا منه. المسمون مسيحيين، المعمدون، انوار ساطعة او ناس مظلمون وكلهم بلا استثناء خطأة والملكوت غير منتشر في الظلام.
غير ان القداس يقام في الكنيسة. هي ملكوت بمقدار ما تبتلع القداس او تأكله. فيها ملكوت يطارد الظلمة. الشيء الرئيس عندنا ان بيننا وبين المسيح تزاوجا روحيا. وهذه الزوجية تمت على الصليب بالدم ككل زوجية.
الى هذا فالعبادات عندنا تنشئ قديسين. هؤلاء القريبون من الكمال ساكن الملكوت فيهم بكثافة وهم حاملون إخوتهم الضعفاء العرج روحيا والمهشمون والصم والبكم روحيا الذين يرتجون شفاء المسيح. الكنيسة شعب الله اي ذاك الذي يكوّنه الله بالكلمة. الكنيسة قائمة فقط من حيث ان الله بانيها لكن الشيطان يهدمها ايضا ويقسمها ويفتتها.
لك ناظرا اليها ان ترى فيها قباحات كثيرة ولك ان ترى فيها جمالات. ان كان نصيبك ان ترى فيها البهاء الإلهي فأنت أسعد الناس وان وقفت عيناك على الأقذار تتعذب ان كنت مؤمنا.
حياتنا في الكنيسة فيها عذاب كثير. الوسخ دائم والتنظيف دائم وهذا باقٍ الى الأبد. هناك دموع دائمة والمسيح وحده ماسح الدموع. يعزيك قلائل. بعضهم تعزياتهم دائمة لأنهم أقوياء. نفوسهم تسكن في الخيرات وانت تذوقها ان كنت مؤهلا لهذا. عند ذاك، يتسلل اليك الملكوت. غير ان الصدمات والخيبات تبقى نصيبك في أرض الأحياء. وان تهشمت في كنيسة الله أعضاؤك تعرف ان الذي شفى العرج هو يقيمك من موت في دنياك لتفرح قبل ان تنقلك الملائكة الى السماء. وفي اليوم الأخير فقط تصبح الكنيسة هي العروس.
السؤال الثاني الذي يقلق الحرفيين وهم كثر هو ماذا سيحصل بغير المسيحيين إزاء حقيقة الملكوت؟ نحن ليس عندنا فرقة ناجية وفرق هالكة. إلهنا إله رحمة واثنان او ثلاثة من الآباء قالوا انه سيلغي الجحيم ولكن احدهم حذر من نشر هذا التعليم. ما اجسر ان اقوله بانتظار الكشف الأخير انني لا اخوض الآن حديث السماء وجهنم لكن حديث ملكوت الله اي سيادة الله على القلوب والمسائل الأخيرية شيء آخر. انا حصرت نفسي في التحدث عن سيادة الله على القلوب وفي تطهيره لها وهذا شيء يختلف عن التكلّم على المعمودية. ما أعلنه الله طريقا الى الخلاص اي ما جعله سرا كنسيا لم يقيد به نفسه. انه يقيد به الذين بلغتهم رسالة الإنجيل. اما الآخرون فهم له اي انهم في تدبيره وفي حريته. لهذا قال احد آبائنا: "من لم تعمّده الكنيسة (بالماء) يعمّده عريس الكنيسة" اي المسيح اي يكون من الفرقة الناجية ان احببنا هذا المصطلح.
المسألة هي هل دخلت الملكوت في الحب او دخل اليك بالحنان الإلهي أكنت عضوًا في الكنيسة ام لم تكن. بكلام آخر يستطيع المسيح ان يجعل منك عضوا في جسده بمجرد اختياره لك. وهنا يستعمل بعض عبارة "الكنيسة غير المنظورة". من هذا المنظار أرى الى حبيبين لي خارج المسيحية بمعناها الشرعي وهما رابعة العدوية والحلاج والبعض من رفقائهما في الإسلام. قد أنظر بالعين نفسها الى غاندي الذي عقد عزمه على ان يحب حتى آخر ذرة في جسده. الى هؤلاء وأولئك جميعا جمالات العالم وليس فقط جمال الناس. فالشعر العظيم في الملكوت او الملكوت فيه. لا أستطيع ان أسمي كل السمفونيات ولا كل قطع الإنشاد البيزنطي والغريغوري ولا كل الأيقونات ولوحات اوروبا والصين والمنمنات الفارسية. كل حنان الأمهات اللواتي لم يصطبغن بالماء المقدس، كل أنين الجائعين في افريقيا، هذا الشاب الذي يموت الآن من السرطان فيما أكتب هذه السطور هذه كلها ملامح او تجليات الملكوت الإلهي.
سألني مرة صديق فيما كنا نواكب معا شخصا ارتحل: هل نسمع السمفونيا التاسعة في السماء. اجبته: ليس في السماء أصوات. نلتقط جوهر السمفونية التاسعة. الملكوت أشخاص يحملون معنى الله وحبه ومدلولات الكلمات المحيية في دنيا البهاء الإلهي النازل على البشر وصور الإبداع. هذا كان وسيكون حتى نلبس معا جلال الله.[/color]