ألله ، ألمحبّة الأزليّة ، الّتي لا بداية لها ولا نهاية ، يتّخذ جسداً ليملا المسكونة حبّاً . لم يعد الحبّ نظريّة فكريّة أو مشاعر رومانسيّة سطحيّة ، إنّما أصبح جسداً ، يتنقّل بيننا ، لا بل يسكننا .
إدراكنا للحبّ ، هو إدراكنا لله . ولمّا كان الحبّ غير محسوساً ، وحالة لا يمكننا تعريفها ماديّاً أو طرحها كمعادلة حسابيّة ، ولمّا كان الحبّ سرّاً لا يمكن لأحد أن يحلّله فقط منطقيّاً ، إنسكب هذا الحبّ في الإنسان ، فرأيناه ولمسناه وعاينا الحبّ شخصاُ .
"فلما تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، وعاش في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتى نصير نحن أبناء الله".(غلاطية 4/4)
ألحبّ كان منذ البدء ، به خلق كلّ شيء ، وعلى صورته ومثاله صُنع الإنسان . فالإنسان هو صورة الحبّ ، صورة الله . وظلّ الإنسان يتوق إلى هذا الحبّ ولا يعرفه ، بل ظنّ أنّ قوّته الجبّارة مخيفة ، وظنّ أنّه ينظر من عليائه ليستلذّ بخطايا النّاس فيدينهم ويحاكمهم. وما زال الإنسان حتّى اليوم لا يعي تماماً أنّ هذا الحبّ المطلق رقيق لدرجة أنّه يتألّم في عمق محبّته متى الإنسان أساء إلى صورته الإنسانيّة .
ألله الحبّ عشق الإنسان في فكره أوّلاً ، كما يعشق الآباء أبناءهم قبل أن يقدّموا لهم الحياة . ثمّ عشقنا لمّا شاهد ما صنع فهتف : هذا حسن جدّاً !! " . وبلغ الحبّ ذروته لمّا انسكب في الإنسانيّة واتّحد بها في يسوع المسيح . فإن أردت أن ترى الله الحبّ ، أنظر إلى يسوع المسيح ، تعاين وجهه القدّوس ، وإن أردت أن ترى وجه الإنسان الحبّ ، أنظر إلى يسوع المسيح ، فتعاين صورتك البهيّة ، وجمالك الإنسانيّ كما أرادهما الله قبل إنشاء العالم .
لمّا تمّ الزّمان ، أرسل الله حبّه ، يتكوّن جسداً في حشا مريم ، وتأنّس حتّى يرفع الإنسان إلى الألوهيّة .. هذا الكلام ليس فلسفة نناقشها ونتفاخر في تحليلها وإنّما هي الحقيقة تتجلّى ليدرك الإنسان كرامته الإنسانيّة ، الّتي هي من كرامة الله .ألحبّ تجسّد لنصير أبناء لله ، ولا نبقى عبيداً ، يسجدون خوفاً أمام الله ، كي لا يغضب أو كي لا يجرحون غروره . نحن أبناء الله ، أبناء بالفعل وليس نظريّاً . وأبونا ، لا يحبّ وإنّما هو الحبّ ، فسكب ذاته فينا واتّحد بنا من شدّة حبّه لنا . إنّه الحبّ الذّروة ، الّذي لا تدركه المعاني ، ولا الكلمات ، ولا يدركه المنطق البشريّ فقط . ومن يطالب بأن يدرك الحبّ منطقيّاً فقط ، فليفعل ولكنّه سيصطدم بمحدوديّة العقل . فالحبّ ليس بحاجة لإثبات بقدر ما هو بحاجة لاختبار شخصيّ . علاقة شخصيّة مع المحبوب . ألحبّ يدرَك بالرّوح الّتي تتوق إلى أن تعانق المحبوب الّتي تراه . هذا هو الإيمان ، الّذي نتحدّث عنه ، الّذي هو أن تدرك الرّوح محبوبها . والعقل يساهم إلى حدّ كبير في هذا الإختبار ، إذ أنّه يبدع سلوكاً جديداً لعيش هذا الحبّ ، ويعي كيفيّة تنمية العلاقة مع المحبوب . لا نتخلّى عن العقل ولا عن الجسد ، إنّهما وسيلتنا للإرتقاء والتّعبير ، أمّا الرّوح فهي من تحضن هذا الحبّ الكامل ، تعاينه ، وتراه جليّاً .
ميلاد الرّبّ هو الحبّ يتجسّد شخصاُ ، في بيت لحمَ ، في مذود فقير ليدركه العالم فبيت لحم هي الوجود بأسره. ألرّبّ العليّ القدير ، يولد في مكان ، يمكن لأيّ شخص أن يأتي إليه ، لأنّ الحبّ يريد الجميع ولا يحابي الوجوه . والحبّ تجسّد طفلاً ، مثلنا ليواكب مسيرتنا الإنسانيّة منذ ولادتنا ، حتّى نعلّق على صليب الحبّ لنموت ونحيا به ومعه .
ألميلاد ليس فترة زمنيّة سعيدة ، نقضيها في سهرة عائليّة جميلة ،وحسب ، إنّما الميلاد هو تجسّد الحبّ في كل لحظة من حياتنا ، وبهذا نعلن أنّ الله محبّة . والميلاد هو أن ننحني ونتنازل عن عروشنا لنولد من جديد في بيت لحم ، اطفالاً أنقياء ، لنستحقّ الدّخول إلى ملكوت الحبّ . ومتى أعلنّا سرّ الحبّ ، لم يعد لدينا أيّ عائق أو حاجز في مسيرتنا الحياتيّة . لا بغض ولا كره ، لا مصالح شخصيّة ولا أنانيّة ، لا طمع في ما هو فانٍ ، ولا كنوزاً فانيّة نبني لها المخازن كي نخبّئها . ستتحوّل حياتنا ، نبع حبّ لا ينضب ، ويتحوّل الإنسان كتلة حبّ متنقّلة في العالم .
هذه ليست مثالية وليست خيال إنسان ، وإنّما هي حقيقة نعاينها في الميلاد . إنّعشق الله لنا جعله يسكن فينا ، وبالتّالي عشقنا لله ، يحتّم علينا الولوج في قلب الإنسانيّة لنملأها حبّا .
ألحبّ وحده يغيّر وجه الأرض ، يبدّد الخوف والألم ، وحده القوّة لأنّه يترفّع عن صغائر الأمور . "والدليل على أنكم أبناؤه هو أنه أرسل روح ابنه إلى قلوبنا هاتفا: (أبي، يا أبي). فما أنت بعد الآن عبد، بل ابن، وإذا كنت ابنا فأنت وارث بفضل ألله ". (غلاطية 4/6.7).
ألإبن يرث أبيه ، والأب حبّ مطلق ، وبالتّالي إذا كنّا أبناء فلنا سلطة الحبّ المطلقة ، ننشرها في العالم أجمع ، لنعلن مجد أبينا . والحبّ لا يحتاج إلى الكثير ، تكفي ابتسامة صغيرة ، تبلسم جراح كثيرين . يكفي نظرة حنان تطمئن قلوباً مضطربة . ألحبّ سبب الوجود وغايته ، وحده الحقيقة المطلقة .
يقول بولس العظيم : " أنتم الّذين بالمسيح اعتمدتم ، المسيح لبستم " . نحن تعمّدنا بنار الحبّ المقدّسة ، نزلنا أقصى درجات الموت ، وقمنا أحياء ، نلبس الرّبّ ، نلبس الحبّ ، فلنكن كالأطفال متى لبسوا ثوباً جديداً ، قلقوا عليه ، وحافظوا على جماله ونظافته .
إن كنت حزيناً ، إن كنت غاضباً أنظر إلى الطّفل الإلهيّ كيف يتبسّم من أجل أن تفرح
إن كنت لا تقوى على المسامحة ، أنظر إلى قلبه ، ترى ذاتك فيه ، فتتخطّى كلّ حاجز وتنطلق نحو الآخر تصالحه. لا تنتظر أن يأتي أحد إليك ، بادر أنت بالحبّ . فإلهنا العظيم ، الّذي لا مثيل له ، بادر إليك حبّاً وعشقاً بك ، واعلن مجد الرّبّ حبّاً ، واهتف مع ملائكة السّماء : ألمجد للحبّ في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة .