" أنا هو الرّبّ إلهك ، لا يكن لك إله غيري" . آية ، نتلمّس فيها كلّ شعاع الحبّ الأزليّ . نار حبّ تشتعل بذاتها وتطلق العنان لغيرة قويّة على المحبوب.
ألله لا يحبّ ، إنّه الحبّ . هذا الحبّ الّذي يتّقد دوماً ، ويعطي ذاته من أجل أحبّائه . ربّما ما زلنا نعتقد بسذاجة أنّ الله يريدنا أن نعبده ونطيعه ونمجّده ، وبهذا نكون قد أرضيناه وضمنّا لأنفسنا منزلاً في ملكوته . والله ليس بحاجة للعبادة أو للمجد والقدسيّة . هو ممجّد بذاته زمقدّس بذاته . ما زلنا نخاف من اللّه ، ونخاف الحديث عنه ، ونحصره في أعاليه ، بعيداً عن قلوبنا ، وكأنّه فكرة بعيدة ، نخشى اللّقاء بها .
غالباً ما ندور حول نظريّة الله ، ونبحث عنه باتّجاهات عديدة ، خارج نطاق أنفسنا . نبحث عنه كمعادلة حسابيّة أو كإشكاليّة فلسفيّة . ونحرّك كلّ طاقات العقل لنثبت وجوده فنصطدم بمحدوديّته ، لأنّ النّتائج غالباً ما تكون غير مرجوّة ، وغير مقنعة . هي غير مقنعة لأنّ الله الغير منظور ، لا يمكن إدراكه فقط بما هو منظور . كما لا يمكن أن ننطلق من منطق علميّ بحت ، مرتكز على نظريّات واختبارات علميّة لنفهم الله . وإذا انطلقنا من الإنسان نحو الله ، علينا أن نستخدم كلّ الكيان الإنسانيّ ، فالإنسان ليس عقلاً فقط ، وإنّما هو نفس وروح . ولنحدّد أكثر الكيان الإنسانيّ ، ولنفهم ببساطة ، نقول أنّ الإنسان أبعد من جسد ( لحم ودم ) ، وأبعد من تحليل عقليّ (منطق ) . فإذا فقد أحدهم يده ، سيبقى كشخص ، أو إذا ما قطعت رجله ،فهذا لا ينهي وجوده . وبالتّالي يمكننا التّأكّد أنّ الكيان الإنسانيّ ليس فقط لحماً ودماً . وبالمقابل هذا الكيان الإنسانيّ ، إذا ما أراد أن يصل إلى الله ، عليه أن يستخدم العقل كما القلب .
إذا كنّا نعترف ونؤمن أنّ الله حبّ ، فعلينا أن نسمح لهذه الحقيقة الّتي قبلها العقل ، أن تتسرّب إلى قلوبنا ، وبالتّالي ندرك شيئاً فشيئاً ماهيّة الله ، من خلال اختبار هذا الحبّ . فالحبّ ليس بحاجة لإثبات بقدر ما هو بحاجة إلى اختبار شخصيّ . والاختبار يتدرّج ، ولا يكون دفعة واحدة . فالطّفل مثلاً يختبر وجود والديه . بداية هو لا يعرف أنّهما كذلك ، بل يتدرّج اكتشافه لهما . ويكبر وينمو وهو يختبرهما في حياته منطقيّاً وروحيّاً . كذلك اختبارنا مع الله ، الحبّ ، هو اختبار علاقة حميمة . فمثلاً إن كتب أحدهم رسالة حبٍّ ، فبوسع العلم أن يوضح يحلّل النّصّ ، ويفكّكه ، ويبدي رأيه ، ويثبت صحّة اللّغة ، أو عدمها . يمكنه أن يعرف وزن الكاتب وفئة دمه ، وطوله أو قصره .... لكنّ العلم يبقى مقصّراً عن بلوغ الصّعيد الشّخصيّ ، ذاك الصّعيد الّذي يعطي أهميّتها .
وإذا كنّا نؤمن أنّ الله حبّ ، إذن هذا الله مشغوف بالإنسان ، خليقته . ويحاكيه عبر حضور طويل مليء بأعمال الحبّ . حسبنا أن نفتح كتابنا المقدّس ، حيث الله مع الإنسان والإنسان مع الله يخبران قصّة حبّ الله للبشريّة . هذا الحبّ الّذي صنع الإنسان على صورته كمثاله . إنّه الحبّ الشّغوف ، الّذي اراد للإنسان أبهى صورة. وهو الحبّ الّذي يمتدّ ويجتاح البشريّة لينتشلها من بؤسها ، ويعيد لها قيمتها الحقيقيّة ، حين سكب ذاته فيها ، واتّخذها جسداً ، فخلقها من جديد وأحياها . والله الحبّ لا يتكلّم كثيراً ، إنّما يعمل ، ويعمل ما يقول ، وكلامه موجّه إلى القلب ، وعمله فاعل في الحياة الإنسانيّة . كما يفرض إيماننا بهذا الحبّ ، علاقة متينة وحميمة به . تسليماً كلّيّاً له . فمن يخاف من محبوبه ، أو يشكّ فيه ؟ ومن لا يثق بمحبوبه حدّ المطلق؟ وليس المطلوب أن نؤمن بالله ، بل المطلوب أن نؤمن بالله الشخص ، لنبني هذه العلاقة وننمّيها .
هذا الحبّ العاشق للإنسان ، الشّغوف به ، من حقّه أن يعلن : " أنا الرّبّ إلهك لا يكن لك إله غيري." " أنا هو الحبّ إلهك ، لا يكن لك حبّ غيري ، ولا تحبّ إلّا انطلاقاً منّي " . وإذا ما ساد الحبّ على الإنسان ، وامتلكه ، لتحوّل إلى حبّ متنقّل ، يضيء الكون بأسره . والله ولأنّه حبّ ، لا يفرض ذاته بالقوّة ، إنّما يفيض الحبّ على الإنسانيّة بسخاء ولكن دون أن يفرض حبّه عليها . هو يريدها حرّة في حبّه ، فتوجّه أنظارها نحوه ، وتتوق إليه بحرّيّة.
ألله صديق الإنسان منذ البدء ، صنعه على صورته كمثاله ، وسلّطه على كلّ ما مخلوقاته ، فأشركه بملكه.
فالحبّ لا يعرف الأنانيّة والتّملّك . كما نراه في علاقته الحميمة مع ابراهيم ، يحاور ذاته في الآية 17 من سفر التّكوين 18، فيقول الرّبّ في نفسه :" هل أكتم عن ابراهيم ما أنوي فعله ، وابراهيم سيكون أمّة كبيرة قويّة ، ويتبارك به جميع أمم الأرض ؟ " . ألله يشرك ابراهيم في مخطّطه الخلاصيّ . يتصادق معه ، يخبره بما في نفسه. أولا يستطيع الله أن يفعل ما يشاء دون استشارة أحد ؟ أولا يمكنه أن يتصرّف بملكه وخلقه كما يشاء ؟ .
لم يخلّص الله شعبه من مصر بعصاة سحريّة ، بل خلّصه بالحبّ ، وإن كان شعبه لم يعترف بجميله إلى حدّ بعيد فالحبّ أكبر من أن ينتظر مقابلاً . ألمقابل الوحيد للحبّ هو الحبّ. قال الرّبّ لموسى : " نظرت إلى معاناة شعبي الّذين في مصر ، وسمعت صراخهم من ظلم مسخّريهم وعلمت بعذابهم ، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريّين ، وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض تدرّ عسلاً " (خروج 3/7.8) . يسمع الرّبّ أنيننا ، يتلمّس أوجاعنا، فينزل إلينا ، ينحني بحبّ على إنسانيّتنا وينتشلنا من بؤسنا . يرافقنا في برّيّة قلوبنا ، ويبثّ فيها الحياة .
إنّ الله يناجي الإنسان حبّاً ، ويخاطبه حناناً . يعمّق علاقته به ، فتصبح متينة أكثر فأكثر ، إذ إنّه يريدها أبديّة . ولعلّ آشعيا(43/1.4) ينشد حبّ الله الأزلي قائلاً : يقول الرّبّ :
" أنا خلقتك يا يعقوب ، يا إسرائيل أنا جبلتك ،لا تخف ، فأنا افتديتك. سمّيتك وجعلتك لي. إذا عبرت في المياه فأنا معك ، أو في الأنهار فلا تغمرك. إذا سرت في النّار فلا تكويك ، أو في اللّهيب فلا يحرقك ،فأنا الرّبّ إلهك . قدّوس إسرائيل مخلّصك. جعلت مصر فديةً عنك وكوش وسبأ بدلاً منك . ولمّا كنت عزيزاً عليّ ومجيداً أحببتك، أتخلّى عن شعوب لأخلّصك عن امم بدلاً من حياتك." حبّ مطلق ، معطاء ، فيّاض ، إلهيّ . حبّ ما بعده حبّ ، يأسر البشريّة ، ويمنحها كلّ القوّة ، والعزم . فلا خوف عليها إذا ما ارتبطت به .
ويبلغ الحبّ ذروته على صليب الحبّ ، حيث تجلّى مشرقاً ، ساطعاً ، يحضن البشريّة بحنوّ ، ويبذل ذاته من أجلها . يموت في سبيل حياتها . التحم بها التحاماً كاملاً ، ودخل أحشاء الموت ، وقتله ، وفجّر القبور ينابيع حياة من أجلها . وها هو معها إلى منتهى الدّهر ، نوراً وخلاصاً ، ملجأ دافئاً وحصناً منيعاً.
ألا أيّها الحبّ الأزلي ، أعطنا ان نعاين حبّك
نسلّم ذواتنا لك ، نلج فيك ، نتّحد بك ،
فنرتوي حبّاً ، ونشبع منه ،نعبق بعطره
فتستنير بك العقول ، وتحيا الأرواح
أيّها الحبّ المتسامي ، ألعليّ القدير بالحبّ
الّذي يليق لك كلّ المجد والإكرام ،
مع أبيك وروحك الحيّ القدّوس
من الآن وإلى الأبد . أمين .