النَهَار
السبت 15 تشرين الأول 2011 - السنة 78 - العدد 24537
------------------------------------------------------------------------------
الأقباط
"وانْ حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين» (المائدة 42).
هذه كلمة مرسلة الى القائمين على الحكم في مصر الذين نزل عليهم حلم الحرية، وهي تتضمن السلامة والعدل بين الناس. ومن أسس العدل ألاّ يُستصغَر (بفتح الغين) احد في اي كتلة من القوم. انا لست سائلاً أهل الحكم عما فعلوا الأسبوع الماضي او ما فعل بعض من أقباط. نحن نسعى الى ما كان اهم من حدث واحد، ولو مؤلما جدا. نحن ساعون الى ديمومة علاقات مجموعات تشير الى وحدة الشعب المصري قبل ان يضطر هذا او ذاك من الأمة إلى ان يأسف ويعزي بعد فوات الأوان. الرؤية ألاّ يحل وقت نعاين فيه مذبحة اخرى صغيرة كانت ام كبيرة.
طبيعي ان نناشد المسلمين في مصر، ونحن أكيدون ان معظمهم أمة مسالمة غير ان للفاضلين ان يربوا الأمة كلها ولا يترك للرعاع شأن الوطن كله. لماذا يتوالى حرق الكنائس؟ لست أعلم نية الحكام الحاليين من حيث استئذان المسيحيين السلطة في شأن بنائها وترميمها يصل الى استئذان إقامة مرحض في المبنى الملحق بالكنائس. هذا جزء من تشريع عثماني لم يعدل مع الاستقلال. ولكن لماذا لم يطبق هذا في بلاد الشام مرة واحدة وأشاد المسيحيون الكمَّ الذي ارادوه من البِيَع. اين هذه القسوة من العهود العمرية؟
اذا كانت السلامة جزءا من الحرية فالسلامة تتطلب من العرب الى اي دين انتموا ان يصلّوا. ألم تفهم مصر ان الأقباط أوجدهم ربهم ليبقوا، كما أوجد المسلمين ليبقوا إلا اذا اعتقدت مصر انه لخيرها وتقدمها العمراني التخلص من الأقباط نافع لهذا البلد العظيم. بالله قولوا لي كيف القضاء على الأقباط نافع للجماعات الدينية الأخرى في البلد؟
مذبحة وراء مذبحة تجيز لنا ان نعتقد ان ثمة خطة لإراقة الدماء لا أستطيع ان أفهمها الا لمصلحة الاشرار وهي بالتأكيد لمنفعة اسرائيل. وقد بينت في مقالات اخرى ان عند اليهود عداء للمسيحيين خاصة. ولكن بين المسلمين حكماء كبار قادرون على الدعوة الى التعايش مع المسيحيين وهؤلاء يسمعهم الشعب الذي تدفعه قلوبه الطيبة الى ان يراعي حرية الأقباط في عبادة مأذونة في التشريع وفي التعبير عن الفكر اللاهوتي شعبيا او اكاديميا في عقل مصري عال قائم على العطاء للأمة وعلى تلقي ما عند الأقباط من فكر.
***
عندما كنت أتردد الى مصر كان عدد الأقباط الذي كانت دوائر الدولة تقر به لا يتجاوز النصف او الثلث من العدد الحقيقي الذي تعرفه الكنيسة بسبب من واجب الإحصاء في الرعايا. وكأن الحكم نفسه في هذه السنوات الخوالي ضالع في استصغار الأقباط. هل للحكم الذي يسعى الى ان يقوم اليوم مدني حقا كي لا يخفي الحقيقة؟ هذا الاستصغار مريب ومصر تقول منذ جمال عبد الناصر إن قوميتها عربية وتاليا ان الأقباط عرب والعربي أخو العربي في السراء والضراء. الزاوية العربية مقاربة شرعية لوحدة مصر. واذا أصر المصريون شعورياً على الوطنية المصرية فلا أحد ينازع الأقباط على هويتهم.
أنا أناشد المسلمين في العالم ان يكون المسيحيون العرب هاجسهم. في الاسلام المسيحيون في ذمة المسلمين اي في رعايتهم. نحن من انصار حكم مدني لا يكون احد فيه في رعاية الآخر. مع ذلك يطلب الاسلام من اتباعه ان تكون لهم غيرة على اهل الكتاب وان يسندوهم في حكم معتقدهم. وهذا قد يتطلب تعاونا اسلاميا عالميا ليحافظ المسلمون على المسيحيين في ديارهم. ورجائي يتركز ليس على الدول الاسلامية فحسب بمقدار ما يرتكز على تقوى الشعوب الاسلامية.
قد تكون الغاية الأولى من الحوار المسيحي-الاسلامي في الظروف التي نمر بها الحفاظ الكامل على الجماعات المسيحية العائشة في دار الإسلام. والاتكال هنا على المثقفين المسلمين المتدينين في كل مكان. وهذا التحرك من شأنه ان يحس المسيحيون انهم في أمان. لنا ان نرجو الى المسلمين ان يتمسكوا بديانتهم من هذا القبيل فلا نشك بهم ولا يشكون بنا. ولهم في معتقداتهم ما يجعلهم قرباءنا وان يجعلنا من قربائهم فنشعر ويشعرون اننا معا من ملة ابراهيم. لا نريد لهم إلا الخير وتقدمهم في كل ما يعود من خيرات هذه الأرض.
ونحن نقول لهم صادقين ما ورثناه من الإنجيل اي المحبة وهم يقدمون لنا الرحمة التي في كتابهم وتلتقي قلوبنا بما فيها من نقاوة وإخلاص. وليس احد منا صاغرا عند الآخر.
***
نحن ننتظر ان يضبط الحكم في مصر وغير مصر الاوضاع لأن للحكم قدرة على القسط او بلغة اليوم على المساواة وعلى الحرية في المساكنة الوطنية.
سيئ هو الإنسان الذي يبيّت للآخر الأذى وصالح ذلك الذي يريد له النمو والازدهار ويتقبله تقبل الأخ لأخيه.
المسلمون والمسيحيون رزقهم الله احترام الحياة، الحياة للكل. "لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين" (المائدة، 28). هذا اشتهيه ميثاقا إلهيا بيننا، ميثاقا يلغي القتل الجماعي بصورة قطعية اذكروا ان الدين يقوم على الشهادة اي إرادة ان يبقى الآخر على حريته. «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة، 256). هذه قاعدة مطلقة لا تنسخها آية أخرى في ما يتعلق بأهل الكتاب. من هنا ان المسالمة أساس اسلامي لمعايشة المسيحيين. هذا مبدأ يحلو لي ان يقوى في دار الإسلام ويحلو لي ان يفهم اهل الغرب اننا في هذا الشرق نريد ان يحب بعضنا بعضا وهذه قاعدة في المسيحية تشمل في الحب كل انسان بصرف النظر عن دينه، من حيث ان البشر جميعا هم اخوة في رؤية الرب لهم.
الأحب عند الله ان تكون المجزرة قد انتهت في مصر لأن مصر ليست بلد الفتنة اذا ترك الشعب لضميره. في المشرق الذي يضم سوريا ولبنان ليس من سابقة قريبة لذاكرتنا فيها تقاتل خصوصا ان كل جماعة دينية تعتبر الأخرى أصيلة فلا العثمانيون او المماليك اتوا بالمسلمين ولا الفرنجة اتوا بالنصارى. نحن معا هنا من أقدم العصور وذهب كل منا مذهبه وعلى قدر التصور البشري سنبقى معا في هذا المشرق العربي ملتصقين بالرحمة الالهية وبالثقة بيننا الى ان يرث الله الأرض ومن عليها واذا قدرنا نحن أبناء سوريا ولبنان وفلسطين التاريخية ان نلازم بعضنا بعضا فلا شك في ان هذا يصبح نموذجا للمسلمين والمسيحيين في كل الأرض ولا سيما في ديار العرب سوف نحمل مصر وشعبها في أدعيتنا وسوف يكون عيشنا الواحد في أرض العرب دعوة الينا جميعا لنبقى واحدا في رعاية الله.
المطران جورج خضر