يا روح الحق، هلمَّ وطهِّر نفوسنا
مَن منَّا لا يصرخ بين الحين والآخر لتجديد الحياة وتقديس النفس، إنها اشتياقات داخل النفس الإنسانية.
المخلوقات غير البشرية تتجدَّد تلقائياً وغريزياً (الشجر يُجدِّد أوراقه)؛ أما الإنسان فرغبة التجديد كامنة في نفسه.
لذلك وضعت الكنيسة صلاة الساعة الثالثة من النهار لطلب حلول الروح القدس لتطهير النفس. والعالم حولنا، ووجودنا، يحتاجان إلى التجديد والإصلاح.
فلا يمكن أن نرضى ونرضخ للحياة التي نعيشها كما هي، بل لابد أن نُغيِّر أنفسنا، والعالم من حولنا سيتغيَّر. ولكن، كيف؟
سبيلان ووسيلتان:
هناك طريقان لنسأل الروح القدس أن يتدخل في أية عملية تجديد وتغيير يؤديان بنا إلى القداسة:
الأول: أن نسأل الروح القدس أن يُساعدنا في جهادنا. وهذا هو الطريق إلى النجاح في جهادنا الروحي، حيث فيه نحن نجاهد ونسأل الروح القدس المعونة والقوة.
والطريق الآخر: أن نقول إننا نترك كل شيء للروح، فلا نفعل شيئاً إلاَّ بأن نصلِّي ونترك كل شيء للروح. وكما يبدو فإن كِلاَ الطريقين متطرفان في جهتين عكسيتين. ولكن الطريق الأول هو السائد، ولابد أن ندقِّق فيه في هذا الزمن الذي تسود فيه العقلانية والتخطيط.
+ ولكن أحد صفات الروح القدس هي الحرية، فهو كما قال الإنجيل: ”يهب حيث يشاء“ (يو 3: 8)، وهو لا يحب أن نشير نحن عليه مِن أين يهب؟ ولا إلى أين يذهب؟! لابد طبعاً أن نجاهد ونحاول بقدر طاقتنا، ولكن حينما نصلِّي طالبين الروح أن يحلَّ، فلابد أن نكون مستعدِّين لقبول ما لا نتوقَّعه من الروح.
+ إن موهبة التقديس مرتبطة دائماً بعمل الروح القدس، هكذا علَّمنا آباء الكنيسة؛ ذلك لأن الروح القدس هو واهب التقديس والقداسة.
+ فهناك نزعة وإغراء لربط الروحانية بإحساس التعالي والظن الخاطئ بأن ”الروحانيين“ هم النخبة. فهل الروح القدس يُجدِّد ويُغيِّر أشخاصاً محدَّدين فقط؟ إن روح الله ينسكب «على كل بشر» كما أتت نبوَّة يوئيل النبي في القديم (يوئيل 2: 28؛ أع 2: 17)؟ فكيف نفهم القداسة اليوم؟
جوهر القداسة:
القداسة، في مفهوم الكلمة الأصلي، هي فرز شخص ما أو شيء ما ليكون مُخصَّصاً لله. جوهر القداسة يتطلَّب اتجاهاً لدى الإنسان بكل ما فيه وما حوله (جسده، ذهنه، العالم المخلوق حوله... إلخ)، أنه مخلوقٌ ليكون – بالطبيعة – مختصّاً بالله. فنحن لا يمكننا أن نمتلك أنفسنا، ولا أجسادنا، ولا حياتنا، ولا ما تُقدِّمه لنا الطبيعة؛ إنها كلها تخصُّ الله وهي في ملكيته. أما نحن الذين نعيش في هـذا العالم، فنحن بمثابة ”كهنة“ الخليقة. والكاهن، حسب مفهوم الكتاب المقدس والليتورجيا الإلهية، هو الذي نال امتياز بأن ”يُقدِّم“ و”يُعيد“ الخليقة إلى خالقها، بما فيها أنفسنا وأجسادنا وما تُقدِّمه الطبيعة لنا؛ كما يقول الكاهن في القدَّاس الإلهي: ”نُقرِّب لك قرابينك من الذي لك...“ (ما يُقال قبل السجود لله بخوفٍ ورعدة، وسر حلول الروح القدس).
هذا المفهوم ”الإفخارستي“ (أي كما نُقدِّم قرابين الإفخارستيا لله)، هو الذي نحن محتاجون إليه في هذه الأيام، حيث الكل يفعل العكس، إذ يريد أن يأخذ لنفسه ويستأثر لنفسه بكل شيء. ولكن المفهوم الإفخارستي يُمثِّل روحانية آباء البرية في حياة الرهبنة. ولكن الواضح أن أهل المدن قد نَسَوْه أو ظنوا أنه قاصر فقط على الرهبان! ولكن هذا ما نريد أن يسترجعه الساكنون في هذا العالم، وأن يُخلِّصوا أنفسهم من المفهوم الاستيلائي للطبيعة، من هذه النزعات البشرية المتمركزة حول إشباع وجودنا البشري، متذكِّرين كلمات المسيح الصادقة: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» (مت 4: 4).
القداسة وشركة الحياة مع الآخرين:
كثيراً ما تُفهم الروحانية بطريقة انفرادية، كما لو كان تجديد الحياة للفرد يعني أن يجعله فرداً متفرِّداً يشعُّ بالفضائل، ومواهب الصلاح والاتضاع، وربما بالمعجزات، وغيرها.
ولكننا نحاول دائماً أن ننسى أنه حينما حلَّ الروح القدس لأول مرة على البشرية، حلَّ عليهم وهم جماعة مجتمعة معاً، وبهذا خُلِقت منهم الكنيسة الأولى. فليس هناك فردية مُقدَّسة انفرادية. كل قداسة إنما تنبع من الشركة معاً في الروح. وهذه القداسة هي التي تجعل الكنيسة ”مُقدَّسة“، ثم بعد ذلك تهب القداسة لأعضاء الكنيسة.
هناك مبدأ روحي مسيحي قديم: ”مسيحي وحده ليس بمسيحي“. ولأن هناك ارتباطاً بين الروح القدس والشركة، جاء قول القديس كبريانوس (بابا كنيسة شمال أفريقيا وأسقف قرطاجنة في القرن الثالث): ”لا خلاص خارج الكنيسة“، أي خارج شركة المؤمنين. وهذا ما يجب أن نأخذه بجدِّية وباهتمام. فالروح القدس يعمل حيث تكون الشركة والائتلاف والجماعة. أما حيث تكون الفردية، فلا يمكن للروح القدس أن يعمل، لذلك يحلُّ الاختلاف والخلاف والشجار والشقاق. وحيث يكون الخلاف والشجار والشقاق، فاعلمْ أنه ليس هناك ”روح قدس“، لأن الروح القدس هو روح الوحدة، لأنه هو روح المحبة.
الروح القدس والحرية:
أخيراً، القداسة تعني ”التحرُّر“ أو بالحري ”الحرية“: «حيث روح الرب فهناك حرية» (2كو 3: 17). ”التحرُّر“ يكون بالانفكاك من شخصٍ أو شيءٍ مُضرّ أو مُفسِد؛ بينما الحرية تكون من أجل منفعة شخص أو جماعة. وكِلاَ الاثنين مرتبطان بعمل الروح القدس الذي يُحرر ويهب الحرية.
أمثلة:
1. التحرُّر من الماضي، يقود إلى طلب الغفران من الله من خلال التوبة، والمغفرة للآخرين بمسامحتهم.
2. التحرُّر من شهوة التمركُز حول الذات، (وعلاجه في النسك بإنكار الذات والصوم بنعمة الروح القدس).
3. التحرُّر من ظلم واستغلال وترك الناس فقراء، (وهذا علاجه الاتضاع أمام المرؤوسين، والعدل في الحُكْم، والأَخْذ بيد المساكين والفقراء والمذلولين).
4. التحرُّر، نعم هو ”التحرُّر“ من كل فساد وموت وهو ما يقوم الروح القدس بتحريرنا منه، (وهذا دائماً ننساه إلى أن يمثل أمامنا شبح الموت، فنحن نحتاج إلى حياة التوبة في كل لحظة).
5. أما الحرية، فهي أن أكون حُرّاً بحيث لا يُعيقني عدوِّي عن أن أحبه، فإنْ لم أستطع، أُصلِّي من أجل الذين يُسيئون إليَّ ويضطهدونني. يظنُّ خطأً غير الممسوحين بنعمة الروح القدس أن الحرية هي أن لا أحب عدوِّي، وألاَّ أُصلِّي من أجل الذين يضطهدونني. لكن الروح القدس، في العهد الجديد، قَلَبَ مفهوم الحرية الخاطئ الذي يقول: أن أكون حُرّاً يعني ألاَّ أحب عدوِّي؛ لكن الحرية الحقيقية هي أن عداوة الذي يُعاديني لا تمنعني من محبته، بل بالحري تُشجِّعني على ذلك، لماذا؟ لأننا حينئذ ”نكون أبناء أبينا الذي في السموات“ (مت 5: 45)!
+ أَلاَ تعلم، أيها الأخ القارئ، أنَّ «الله محبة»، ولأن الله لا يتغيَّر عن طبيعته، لذلك فلا يمكن أن يوجد في جوهره ”عداوة“ أو ”بغضة“ لأي إنسان؟ الإنسان الذي يعيش في ظلمة الخطية هو الذي يُعادي الله، ويكرهه، ويبتعد عنه، ولا يطيق أن يوجد في المكان الذي يوجد فيه أحباء الله! أما أبناء محبة الله فهم يرثون من أبيهم ”محبة الله“، فيصيرون هم أيضاً ”محبة“ لا يمكنها أن تنقلب إلى عداوة. لذلك، ففي الدهر الآتي سيكونون قريبين من «الله محبة». وهذا هو ملكوت أبناء محبة الله.
+ كل هذا يعني أن هناك خطراً بالغاً على حياتنا الأبدية أن نخلط خبراتنا النفسية وحتمياتنا المتحررة من روح الله، نخلطها مع مفاهيمنا عن وصايا المسيح بالمحبة والمغفرة للآخرين. الروح القدس هو الله، إنه ”الرب“. ولا يمكن أن يكون الروح القدس سجين مشاعرنا وأحاسيسنا البشرية غير المتجدِّدة بـروح الله. وأفضل مـا يمكن أن نعمله هـو أن نعبده باعتباره ”الرب“ المُحيي، واهب الحياة، لأنه هـو واهب المحبة. ولننتظر بصبرٍ ما يعمله فينـا، وفي كل سلوك نسلكه بحسب مشيئته، إلى أن نبلغ ملكوت الله. +