الميلاد :
الميتروبوليت أيروثيوس فلاخوس نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عيد ميلاد المسيح كإنسان هو رأس الأعياد، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. كل أعياد السيد الأخرى - الظهور، التجلّي، الالام، الصليب، القيامة والصعود - تتبع الميلاد. من دون الميلاد لم كانت القيامة لتكون، وبالطبع من دون القيامة لم يكن هدف التجسّد ليتحقق. كلّ هذه الأعياد واحدة. نحن نفصلها لكي نحتفل بها، ولكي ننظر بوضوح أكبر إلى محتواها. في كل قداس إلهي، نعيش كلّ أحداث التجسّد الإلهي. وهكذا، بحسب الآباء، كل عيد هو الميلاد، وكل عيد هو الفصح وكل عيد هو العنصرة.
ما جرى في البشارة، بدأ يتكشّف عند ميلاد المسيح. عندما نسمّيه إعلاناً نعني أنّ هناك أكثر من شخص، كالعذراء ويوسف وغيرهما، قد كُشِف لهم أنّ المسيح الذي كانت تنتظره كلّ الأجيال قد أتى إلى العالم. على الأكيد، يبقى المسيح مخفياً عندما يظهر، وعندما يظهر يكون مخفياً. نحن نرى هذا في مجمل حياته كما في إعلانه لقديسيه.
ميلاد المسيح هو حدث تاريخي لأنّه جرى في لحظة محددة من التاريخ، عندما كان أوغسطس قيصر امبراطوراً لروما وهيرودس حاكماً لليهودية. شدد الإنجيليون على تاريخية الحدث، لأنّهم يريدون أن يقولوا أن المسيح هو شخص تاريخي. هذا يعني أن المسيح اتّخذ جسداً بشرياً حقيقياً، وأن التجسد لم يكن مجرّد مظهر خارجي أو خيال. وبالرغم من تاريخيته، يبقى هذا الحدث سرّاً. نحن نعرف أنّ الإله-الإنسان، الإله الكامل والإنسان الكامل، موجود، لكن ما يبقى سراً هو كيفية اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في شخص الكلمة. إلى هذا، ما جرى لشخص المسيح، أي اتّحاد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية، جرى مرة واحدة فقط. لهذا قال القديس يوحنا الدمشقي أن المسيح هو "الأمر الوحيد الجديد تحت الشمس". هذا يعني أنّه منذ خلق العالم والإنسان، لم يكن هناك أي جديد في العالم. كل شيء يتكرر. ولادة الإنسان هي نتيجة كلمة الله وثمرتها "لنصنعنّ الإنسان على صورتنا وشبهنا"، و "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا" (تكوين 26:1-28). الجديد الوحيد هو المسيح الإله - الإنسان.
إذاً، حقيقة أن الحدث تاريخي لا تلغي السر، كما أن السر لا يستبعد التاريخية. في عيد الميلاد نحتفل بميلاد المسيح، ولكن في الوقت عينه نختبر سرّياً، في قلوبنا، كل الأحداث المرتبطة به، إذ عندما نكون أحياء في الكنيسة، نشترك في كل مراحل التجسّد الإلهي ونختبرها.
الفرق بين العهدين القديم والجديد هو أنّ كل الإعلانات الإلهية في العهد القديم هي إعلانات للكلمة من دون جسد، بينما في العهد الجديد هي إعلانات للكلمة المتجسّد. إنّ الذي أعلن ذاته لموسى والأنبياء كان ابن الله وكلمته من دون جسد، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. لم يكن للأنبياء العهد القديم وأبراره مجرّد شركة مع كلمة الله بل لقد عاينوا أيضاً تجسده. هذا هو معنى أنّهم رأوه كإنسان. آدم، كما يذكر العهد القديم، سمع وطأ قدمي الله الذي كان سائراً في الفردوس. يعقوب تصارع مع الله. موسى رأى الله من الخلف. إشعياء رآه إنساناً جالساً على العرش. دانيال رآه كشبه إنسان وابن إنسان آتٍ إلى قديم الأيام. كل هذه الإعلانات تشير إلى أنّهم رأوا تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، رأوا الذي تجسّد لخلاص الجنس البشري.
حقيقة أنّ موسى رأى الله من الخلف تشير بوضوح إلى أنهّ رأى ما سوف يحدث في المستقبل، أي تجسّد الكلمة. الأنبياء لم يروا طبيعة الله بل مثال وصورة ما سوف يجري في المستقبل. فابن الله وكلمته كان آتياً ليصير إنساناً بالحقيقة، لكي يتّحد مع طبيعتنا ولكي يُرى بالجسد على الأرض (القديس يوحنا الدمشقي). بمعزل عن هذه الحالات، هناك أيضاً نصوص رؤيوية في العهد القديم تتنبأ بوضوح، ليس فقط عن تجسّد كلمة الله، بل أيضاً عن وقائع محددة، كمثل أنّه لن يفسد عذرية والدة الإله، وأنّه سوف يجلب السلام على الأرض، وغيرها.
نحن نحاول في هذه التفسيرات أن ننظر إلى المعاني الخريستولوجية لأعياد السيّد. مع ذلك، يمكننا أن نجد أيضاً وقائع عديدة مرتبطة بحقيقة أنّ المسيح هو مخلّص العالم وبأنّ اختبار هذه الحقيقة يفترض مسبقاً حالة روحية محددة عند الإنسان.
بالإضافة إلى العذراء ويوسف، أوّل مَن سجد للطفل الإلهي هم الرعاة. لقد أعلمهم ملاك الرب بأنّ مخلّص العالم قد وُلِد. هذا لم يكن مصادفة، ولم يعنِ أنّ هؤلاء الرعاة كانوا مستحقين لهذا الإعلان كونهم كانوا أقرب من غيرهم إلى المغارة. بحسب الآباء، هذا جرى لأسباب عديدة. أولاً، بسبب براءة الرعاة الناتجة عن وحدتهم وهدوئهم. ثانياً، لأن الرعاة كانوا يتّبعون طريقة حياة بطاركة العهد القديم وفضائلهم. هذا يعني أنّ الرعاة لم يكونوا أشخاصاً تمّ اختيارهم مصادفة. ثالثاً، لكي يظهر أن المسيح سوف يكون الراعي الحقيقي للإسرائيليين والأمم. رابعاً، لكي يظهر بوضوح أن المسيح اختار أكثر الناس بساطة وأكثرهم قدرة على تلقي هذا الإعلان، وليس الكتبة والفريسيين الماكرين. كلّ هذه الأمور تظهر الطريقة التي يمكن اتّباعها لاختبار سرّ الإعلان.
"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام" (لوقا 14:2)، هذا نشيد الملائكة المميّز. السلام الذي امتدحه الملائكة ليس سلاماً اجتماعياً، بل هو تجسد المسيح وحضوره. هكذا، كان الملائكة يسبّحون السلام الذي أتى مع ولادة المسيح وليس السلام الذي سوف يأتي في المستقبل. فالمسيحُ بتجسده أعطى للإنسان السلامَ مع الله ومع أخيه ومع نفسه أيضاً، ذلك بالتحديد لأنّ الطبيعة الإلهية اتّحدت بالطبيعة البشرية في شخصه. بعد سقوطه، خسر الإنسان السلامَ مع الله لأنّه عبد الأصنام العادمة النفس والأحاسيس وليس الإله الحقيقي. الآن، بتجسّد المسيح أُعطي إمكانية عبادة الإله الحقيقي. لقد بلغ السلام أيضاً مع الملائكة ومع إخوته البشر. وبالحقيقة، لقد بلغت قوى نفسه السلام لأن المسيح عمل ما فشل آدم في عمله. كان على آدم أن يبلغ الشركة الكاملة مع الله بالنعمة الإلهية وبجهاده، فكان ينبغي أن تعمل قوى نفسه طبيعياً وفوق الطبيعي. هذا حققه المسيح.
توحي عبارة "في الناس المسرة" بأنّ التجسد كان إرادة الله من قبل. بحسب الآباء، تُكشَف إرادة الله في ما يسبق وما يتبع. ما يسبق هو بإرادته الحسنة، وما يتبع هو بسماحه. عندما يُقال بأنّ التجسّد كان إرادة الله قبلاً، يُفهم أنّه لم يكن نتيجة السقوط. بتعبير آخر، اتحاد الإنسان بالله لم يكن لينجح لو لم يكن هناك شخص محدد فيه تتحّد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية. لهذا، التجسد هو إرادة الله السابقة، ما يعني أنّه كان مخططاً لها بغضّ النظر عن سقطة آدم. ما نتج عن السقوط كان آلام المسيح وصلبه. تجسّد المسيح كان نهاية الخلق. كل الخليقة والإنسان هم من أجل الإله- الإنسان. هذا يُقال من وجهة نظر أن الإنسان لم يكن ليتألّه ولا الخليقة لتتقدّس لو لم يكن الإله - الإنسان.
بالإضافة إلى الرعاة، أعطي المجوس أو حكماء المشرق أن يسجدوا للمسيح المولود جديداً. الأمر المهم ليس متى صار هذا، بل أنّهم اكتشفوا المسيح. الأمر الجوهري هو أنّ الله كُشِف لهم، ما لم يحدث للكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكّلون المؤسسة الدينية في ذلك الحين. لم يكن الحكماء منجّمين بالشكل الذي نعرفه اليوم، بل علماء فلك يراقبون النجوم وحركاتها في السماء. في ذلك الحين، كان التنجيم يُعتَبَر علماً. اليوم انفصل علم الفلك عن التنجيم المرتبط بالماورائيات والشيطانيات والذي يرفضه الإيمان الأرثوذكسي.
عرف المجوس المسيح وسجدوا له "بسبب معرفتهم الداخلية". لقد رأوا طفلاً بأعينهم الجسدية وبنظرهم الخارجي، إنّما بنوسهم رأوا الله الذي صار إنساناً. إذاً، كان المجوس في حالة روحية مؤاتية ليروا الله ويعبدوه. لم يكن الأمر مسألة علم بل مسألة طهارة نوسية داخلية. ما يثبت هذا الكلام هو أنّ النجم الذي رأوه في الشرق والذي قادهم إلى بيت لحم لم يكن نجماً عادياً، بل بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، ملاك الرب قادهم. هذه لم تكن حادثة عادية بل فوق العادية، كما يظهر من صفات هذا النجم. أولاً، هذا النجم لم يكن يتحرّك وحسب بل كان يقف أيضاً. كان يتحرّك عندما يتقدّم المجوس ويتوقّف عندما يتوقّفون. ثانياً، هذا النجم كان يتحرّك منخفضاً أكثر من غيره من النجوم، وعندما بلغ المجوس إلى حيث كان المسيح، نزل وتوقّف فوق المنزل. ثالثاً، لقد كان لامعاً أكثر من النجوم الباقية (القديس نيقوديموس الأثوسي). إلى هذا كان نجم المجوس يتحرّك بطريقة غريبة، من الشرق إلى الغرب، وعند النهاية تحرّك من أورشليم إلى بيت لحم، أي نحو الجنوب. وأيضاً، كما يذكر القديس يوحنا الذهبي الفم، كان يظهر حتّى في النهار، بينما لم يكن أي نجم آخر يظهر في نور الشمس.
إذاً، هذا النجم اللامع كان ملاك الرب، وكما يقول يوسف فريونيوس، لقد كان رئيس الملائكة جبرائيل الذي خدم وشهد السرّ العظيم، سرّ تجسّد ابن الله وكلمته. إذاً، كان المجوس لاهوتيين بالمعنى الأرثوذكسي للكلمة، لأنّهم بلغوا الاستنارة وأحرزوا معرفة الله.
الخليقة كانت أيضاً حاضرة عند ولادة المسيح، وقد أخذت نعمة من ابن الله وكلمته الصائر إنساناً. تشمل عبارة "الخليقة": الحيوانات، المغارة، المذود، الجبال، السماء وغيرها. تظهِر أيقونة الميلاد كل الخليقة تتسلّم نعمة من المسيح. يظهر المسيح في وسط الأيقونة، وهو مصدر النعمة غير المخلوقة، ومنه تفيض قوة الله المقدِّسة والمؤلِّهة.
عند ميلاد المسيح، كل الخليقة تمجّد الله خالقها. إنّها تشهد بأن المسيح كإله هو صانع الخليقة وأن الخليقة هي عمل يديه. قلنا سابقاً أن كل الخليقة أخذت نعمة من الله عند لحظة الميلاد. علينا أن نميّز بوضوح أنّه فيما قوة الله هي واحدة، إلا إنّ لها صفات مختلفة بحسب تأثيراتها. وهكذا، نحن نتحدّث عن قوّة مقدِّسة ومؤلِّهة، أو يمكننا أن نتحدّث عن قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة وتضفي الحكمة وتقدّس. في هذا الإطار علينا أن نقول أنّ من جهة الأنطولوجيا، تشارك الخليقة في قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة، ومن جهة الخلاص تشارك في قوته المقدَّسة. وحدهم المتقدّسون والملائكة يشتركون في قوة الله المقدّسة.
إذاً، الأشخاص الموجودون عند ولادة المسيح، والملائكة أيضاً، اشتركوا في قوة الله المؤلِّهة، بينما الخليقة غير العاقلة شاركت في قوة الله المقدِّسة. نذكر هذا لتلافي أي تشوش في الكلام عن الاشتراك بنعمة الله.
في الحديث عن ابن الله وكلمته صائراً إنساناً، من الأساسي أن نتفحّص الأسماء التي تُعطى له لأنها تعبّر عن عدّة حقائق لاهوتية. قبل التجسّد، يُسمّى الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس ابن الله وكلمته. تشير تسمية "ابن" إلى أنّه وُلد من الآب، وما وُلِد هو شخصه. تُستعمَل أيضاً تسمية "كلمة الله" للإشارة ليس فقط إلى عدم إمكانية الخطيئة عند المولود بل أيضاً إلى وظيفتي الارتباط والإعلان عنده، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. إنّه يُدعى "كلمة" لأنّه مرتبط بالآب كما ترتبط كلمة الإنسان بنوسه، أي أنّ الكلمة تعلِن ما في النوس من أفكار وغيرها. إذاً، تسمية "الكلمة" تظهِر لنا الآب أيضاً، لأنّ مَن يفهم الكلمة ويراه يفهم أيضاً الآب ويراه في الكلمة.
بعد التجسّد، أو بالأحرى عند لحظة الحَبَل بالكلمة في رحم العذراء، تمّ اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في أقنوم الكلمة الذي يُسَمّى المسيح. إن تسمية المسيح هي اسم الأقنوم ولا تُستَعمَل لطبيعة واحدة، بل هي إشارة إلى الطبيعتين في الإله الذي تجسّد. بما أنّ الطبيعة البشرية مُسحَت من الله، سُمّي الكلمة المسيح. تشير تسمية المسيح إلى الآب الذي مَسَح والابن الذي مُسِح والروح القدس الذي هو الزيت المقدس. في أي حال، بما أن الطبيعة البشرية مٌسحَت من كل الثالوث القدوس، فكلمة الله شارك في المَسْح. فالكلمة مسح نفسَه بألوهته وفي الوقت ذاته، مُسِح كإنسان (القديس يوحنا الدمشقي).
وهكذا، اسم المسيح يعني الله والإنسان، أي المسيح الإله-الإنسان. يمكن استعماله أحياناً لإنسانية المسيح وأحياناً لألوهته. لكن هذا يكون منتهى التكييف، إذ بعد اتّحاد الطبيعتين في أقنوم واحد، دُعي الكلمة المسيح. إذاً، الذي كان ابن الله وكلمته قبل التجسّد، فيما هو دائماً ابن الله وكلمته، سُمّي المسيح بعد التجسّد إشارةً إلى اتّحاد الطبيعتين. إن كلمة "ألوهة" تشير إلى الطبيعة، بينما كلمات "الآب" و"الابن" و"الروح" تشير إلى الأقانيم. من الهرطقة الادّعاء بأنّ الألوهة تجسّدت أو صارت إنساناً. الإيمان الأرثوذكسي هو أنّ الألوهة اتّحدت بالبشرية في أحد أقانيمها، أي أن الآب لم يتجسّد، بل الأقنوم الثاني وحده، ابن الله وكلمته، الذي كان إلهاً حقيقياً، اتّخذ جسداً. (القديس يوحنا الدمشقي).
ننشد في سحرية عيد الميلاد "لهذا فيما نقدّم ما هو أفضل من الجزية الأرضية، أعني الأقوال اللاهوتية المستقيمة الرأي". لا يقدّم التجسّد الإلهي الأفكار التقوية أو التحاليل العاطفية أو النفسية. حتى هذه التحاليل يمكن أن تقدّم شيئاً ما مناسباً لمستوى العصر المادي أو الروحي، لكن في النهاية سرّ التجسد ينبغي دراسته في جو اللاهوت الأرثوذكسي. كيف يمكن أن يكون خلاف ذلك وعندنا اتّحاد للطبيعتين الإلهية والبشرية في أقنوم الكلمة، تألّه الطبيعة البشرية، وأمور جديدة ومتناقضة لا يمكن للفكر البشري أن يدركها؟
بعد كل الذي قلناه، يمكن أن ننظر إلى النقاط الأربع التالية، التي تظهر مقاربة شخصية لهذا العيد العظيم، "رأس" أعياد السيد. أولاً، المغارة التي وُلِد فيها المسيح هي نموذج للكنيسة. يقول القديس أثناسيوس الكبير تصويرياً بأن الغرفة الصغيرة التي انتظرت العذراء فيها ولادة المسيح هي نموذج الكنيسة. المذود هو الهيكل، يوسف هو الخادم، المجوس هم الإكليروس، الرعاة هم الشمامسة، الملائكة هم الكهنة، الرب هو الأسقف، العذراء هي العرش، الحُفَر هي الكؤوس، التجسّد هو اللباس، الشاروبيم هم المراوح، الروح القدس هو القرابين، الآب الذي يظلل كل شيء بقدرته هو الحجاب الذي يغطّي القربان. الكنيسة هي جسد المسيح الإله-الإنسان الذي حُمِل في رحم العذراء، وُلِد، تجلّى، تألّم، صُلِب، قام وصعد إلى السما. يُحتَفَل في القداس الإلهي بهذا السر العظيم ونُعطى إمكانية المشاركة في نعمة المسيح. ليست الكنيسة مؤسسة بشرية ولا هي طقس استذكار وإشباع لحاجة مشاعرنا.
ثانياً، الطبيعتان الإلهية والبشرية متحدتان دائماً في أقنوم الكلمة من دون تغيّر أو تشوش أو انقسام أو انفصال. هذا يعني أنّهما لم تنفصلا ولن تنفصلا. كون الطبيعة البشرية غير منفصلة عن الإلهية وكون الإله-الإنسان موجود دائماً في كل زمان، يمكننا الآن أن نشترك في جسد السيّد المؤلَّه، وباشتراكنا بجسد المسيح ودمه الإلهيين نصير جسداً واحداً ودماً واحداً مع المسيح.
ثالثاً، كوننا نسجد لسرّ التجسّد العظيم، وخاصةً لأننا نشترك بجسد المسيح ودمه، علينا أن نضلل هيرودوس كما فعل المجوس. يقول الإنجيلي متّى أن المجوس "إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ." (متى 12:2). كلمة "هيرودوس" في العبرية تعني "من الجِلد". لهذا يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أنّ علينا أن نضلل أفكار الجسد وملذاته. إلى هذا، علينا أن نخدع شيطان الفكر الذي يمنعنا من السير في طريق الخلاص. علينا أن نعود من طريق أخرى، بالفضائل، إلى أرضنا الأصلية، أي الفردوس. هذا يعني أننا مطالبون بعيش حياة أسرارية ونسكية. كل الذي يحيون نسكياً يُعطَون أن يتّحدوا بالمسيح في الأسرار.
رابعاً، عندما يسلك إنسان أسرارياً ونسكياً، في تناغم مع روح التقليد الأرثوذكسي، يختبر روحياً أحداث التجسّد الإلهي، وبصورة أكثر شمولاً في مجمل كيانه. فلا يعود يرى الأحداث خارجياً بل داخلياً. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث بأنّه عندما يطهّر الإنسان قلبه ويستنير، يستقبل المسيح في داخله ويفهم وثباته كمثل طفل. يُدرَك المسيح كطفل في داخله ويولَد بالفضائل فيحيا الإنسان كل هذه الأحداث في كيانه. بالتأكيد، فقط في المسيح تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية أقنومياً. لكن الشخص المتقدّس يتلقّى أيضاً قوة الله في طبيعته ويصير عضواً في جسد المسيح. هكذا، يفهم كيف تعمل نعمة الله في طبيعته وماهية إفراغ الذات وماهية تألّه الطبيعة البشرية.
إن تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس هدف إلى تأليه الطبيعة البشرية. من ناحية ثانية، ينبغي أن يتألّه أيضاً أقنوم كل منّا. إن لم نستعجل التألّه، يكون الأمر بالنسبة لنا وكأن المسيح لم يتجسّد