واقع الحالطرحت، مرّة، سؤالاً على مجموعة من الشبّـان. السؤال كان: هل العفّة ممكنة في الأيّـام التي نحن فيها؟ للحال وبعفوية أجاب أحدهم: مستحيل!
لا شك أن رموز الزنى، اليوم، متغلغلة في كل مشارب الحياة. كيفما تحرّكتَ طالعتك رموز الزنى: في الشارع، في محلّ العمل، في المدرسة، في البيت، في غرفة النوم، في شتّى وسائل الإعلام، في ملابس الناس، في تصرّفاتهم، في عطورهم، في مآدبهم، في أغانيهم، في أحاديثهم... باتت أسلوباً ميسّـراً فعّـالاً يستعين به كل صاحب سلعة ليسوِّق بضاعة له. لم يسبق للإنسان في التاريخ أن مارس تجارة الأجساد كما مارسها ويمارسها منذ نيف وخمسين سنة. المجتمعات، بعامة، ترفض وتكافح ما يُسمَّى بـ "الرقيق الأبيض" أو تجارة الأجساد، لكنها، في الحقيقة، لا ترفضه بالمطلق. ترفضه إذا كان بالإكراه، باستعباد الناس، بالمتاجرة بهم، ببيع الأجساد وشرائها للمتعة. لكنها لا ترفضه، لا بل تستبيح أشكالاً منه اليوم باسم الحريات وتشجّعه. الناس لا يستعيبون أن يتاجروا بصور الأجساد، برموز الزنى، بالإيحاءات الجنسيّة البصرية والسمعية تمثيلاً. الحقيقة الحقيقة أنه ليست هناك تجارة أكثر رواجاً اليوم من تجارة "الرقيق الأبيض" على هذه الصورة. تهافتُ الناس على توظيف طاقاتهم في هذا المضمار هائل. بإمكان المرء أن يؤكّد ان تجارة الأجساد في العالم اليوم هي أوّل وعرّاب كل تجارة بامتياز.
ذاك الشاب، إذاً، الذي أجاب بعفوية على السؤال بشأن العفّة انها مستحيلة إنما يعكس هذا الجو الضاغط الذي بات فيه الزنى مطبّـعاً ومشيَّـعاً، بصورة مباشرة وغير مباشرة، إلى أبعد الحدود. في الماضي كان المائلون إلى الفجور يُشبعون رغبتهم ويُـفسدون أنفسهم في أمكنة خاصة تُـعتبر، عند العامة، مشبوهة، واليوم، عبر التلفزيون والكومبيوتر، اخترق الفجور كلّ الحجُب واستقرّ، بين العامة، حتى في غرف نومهم، وسهّـل لهم إفساد أنفسهم من دون حسيب أو رقيب أو شعور بالذنب. بالأمس كان الغوى وكشف الأبدان والتهتّـك نصيب الفاجرين والفاجرات فأضحى اليوم تعبيراً عن الحرّيات. ما كان يُـعتبر، البارحة، رذيلة، صار يُـعتبر اليوم أدنى إلى الفضيلة الاجتماعية. ما ظنّ الناس، بالأمس، أنه إفساد للحياة وانتهاك للحب والزواج، أضحى اليوم انفتاحاً وحداثة. فلا عجب، في مناخ كهذا المناخ، ان يسود الظنّ ان العفّة قد عفّ عنها الزمن وارتحل عنها الناس وان الزنى بات من عاديات الحياة.
معاني الألفاظلا بدّ لنا، بادئ ذي بدء، من أن نحدّد معاني الألفاظ التي هي في التداول في الشأن المطروح. ما هو الزنى؟ الزنى، في أذهان الناس، هو الخيانة الزوجية سواءٌ من جهة الزوج أو من جهة الزوجة. وما هو الفسق؟ الفسق هو العلاقة الجسدية بين ذكر وأنثى عازبَين أو مطلَّقَين أو أحدهما عازب والآخر مطلَّـق. وما هو الفجور؟ هو ارتكاب المعاصي. وما هي الفحشاء؟ هي ما قَبُح من الأفعال والأقوال. والفجور والفحشاء يمكن أن يكونا، أيضاً، مرادفَين للزنى. لهذا السبب للزنى معنى ضيّـق، هو الخيانة الزوجية، ومعنى واسع يشتمل على كل العلاقات المختلّة بين الذكور والإناث، والذكور فيما بينهم والإناث فيما بينهن. كما يشتمل الزنى على علاقة الإنسان بجسده، إذا اختلَّت، سواءٌ عند الذكور أو عند الإناث. مثل ذلك ما يُعرف بـ "العادة السرّية". ثمّ للفظة زنى استعمال لا يقتصر على ما هو للطاقة الحيوية عند الناس، أو ما يسمّى بـ"الجنس"، بل يتعدّاه إلى كل فساد له علاقة بالإنسان، في الجسد أو في النفس أو في الفكر أو في القلب أو في الكيان. فالإنسان يزني بعينه، أو بأذنه، أو بلسانه، أو بأي عضو من أعضاء جسده، كما يزني بأفكار قلبه. لاحظوا هنا ان ثمّة أفكاراً لها علاقة بالعقل وهي نتاج عقلي، مفاهيم عقلية، كأن تقول ثلاثة وثلاثة تساوي ستة. وهناك أفكار لها علاقة بالقلب، تنبع من القلب، من نوايا القلب ومقاصده، وتُوجِّه الإنسان في هذا الاتجاه أو ذاك. أفكار العقل يُحكم عليها باعتبار ما إذا كانت صحيحة أو مغلوطة، وأفكار القلب باعتبار ما إذا كانت صالحة أو شرّيرة. فأفكار القلب، بهذا المعنى، تكون زانية أو عفيفة، تدفع الإنسان إلى الزنى أو تدفعه إلى العفّة.
إذا كان هذا هو الزنى فما هي العفّة؟ العفّة هي أن يكفّ الإنسان ويمتنع عن المُنكر ويبقى في حدود ما هو حلال. فهناك عفّة في القول والفعل والفكر، وهي تطال كل ما للجسد والنفس والذهن والقلب. فالإنسان يعفّ بعينه أو بأذنه أو بلسانه أو بأي عضو من أعضاء جسده، كما يعفّ بأفكار قلبه.
وهناك، إلى جانب هذه الألفاظ، ألفاظ أخرى بحاجة إلى تحديد. العُذرة. ما هي العُذرة؟ العُذرة هي البكارة، ان يكون الرجل أو المرأة بكراً. لا قيمة للعُذرة في ذاتها لأنها مجرّد واقع طبيعي. قد تكون عديمة القيمة إذا كان الإنسان زانياً في أفكار قلبه، وقد تكون جليلة القيمة إذا ارتبطت بالعفّة. من هنا تسمية الفتيات اللواتي كنّ، في الماضي، في الكنيسة، بكارى وسلكن في العفاف، بـ"العذارى". فالعذراء، في الاستعمال الكنسي، هي البكر العفيفة لا البكر فقط. بهذا المعنى بالذات وُصِفت والدة الإله بـ"العذراء" مريم.
أما لفظة بتول فتُطلَـق على الذكور والإناث معاً، وهي تعني، في الاستعمال الشائع، العفيفة أو العذراء، لكنها بالمعنى الدقيق للكلمة أكثر من عفاف، ولا تتوقّف عند حدود العُذرة، بل تطال كل إنسان سلك في العفاف ثم بلغ كمال العفاف وسكن فيه روح الله. فالإنسان الذي يسكن فيه الله بعد ان يكون قد بلغ كمال العفاف يُسمّى "بتولاً".