التّوبة قرار شخصيّ حرّ وشجاع في التّحرّر من كلّ ما يعيق السّير نحو الرّبّ والعودة إليه إدراكاً من الإنسان أنّ حرّيّته الحقيقيّة تتحقّق في الله. وهي لا تقتصر على الاعتراف بالخطايا وإنّما تتخطّاها إلى التّغيير الجذري في عمق الذّات الإنسانيّة.
- افتح لي أبواب التّوبة:
وكأنّ التّوبة مفتاح لأبواب كثيرة مشرّعة على وجه الرّبّ، ترسل إلينا نور الحياة، يتسرّب إلينا، يحرّك ضميرنا الإنسانيّ ويوقد فينا الشّوق إلى الله. " توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السّماوات"، يقول الرّبّ في ( متى 17:4). وهي دعوة إلى التّغيير وليس إلى طلب المغفرة من الله وحسب. فالتوبة والغفران في المسيحيّة أبعد وأعمق من عودة عن خطيئة ما، إنّها ولادة جديدة واستقبال للنور الإلهي في الذات الإنسانيّة بحيث أنّه لا يعود ويقبل إلّا بصورته البهيّة التي هي على صورة الله. إنّها استدعاء للمحبّة الإلهيّة الغامرة لتسكن فينا أبداً. من خلال التّوبة نطلّ على أبواب عديدة تقودنا إلى حضن أبينا حيث الأمان والسّلام والحرّيّة.
- باب الضّمير:
الضّمير هو إنذار المحبّة في الإنسان، ذلك الصّوت الخافت الّذي ينبّه إلى قباحة الفعل السّيّء الّذي نرتكبه، ويحثّنا إلى العودة عنه. كل إنسان يعلم أنّه يخطئ مهما غاب عنه فظاعة ما يفعل. وعلمه بالخطأ لا يعني بالضّرورة أن يهتزّ كيانه أو أن يضّطرب ويعود عن فعله، ولكنّ حضور الله الدّائم وغير المنقطع يساعد الإنسان على العودة، وإلّا لما رأينا أشخاصاً بعيدين عن المحبّة الإلهيّة ورافضين إيّاها، تحوّلت حياتهم وسلوكيّاتهم وولدوا من جديد. قد ينام الضّمير ويستغني الإنسان عنه، لكنّه لا يموت لأنّه إنذار المحبّة. وهذا الإنذار هو بمثابة دافع إلى التّوبة والعودة إلى الله.
- باب الطّمأنينة والسّلام:
كلّنا اختبرنا لحظات ما بعد الاعتراف، وأدركنا مدى الارتياح النّفسي والرّوحي لأنّنا شعرنا بأنّ يداً امتدّت وأزالت عنّا نير العبوديّة للخطيئة وربّتت على كتفنا، وسمعنا صوت الرّبّ يقول: مغفورة لك خطاياك. هذه العبارة تلمس بقوّة من قال في نفسه: " أقوم وأعود إلى أبي..." ( لوقا 18:15). فقرار العودة واثق بأنّ الرّبّ ينتظر أبداُ دون ملل أو يأس. والسّير قدماً نحوه وملاقاته يؤكّد أنّ محبّته أكبر من خطيئتنا وأعظم من ضعفاتنا. إنّه الارتماء في حضن الأب والبكاء على صدره حزناً على ما صدر منّا وجرح الرّبّ في عمق محبّته. والبكاء فرحاً مقابل هذه المحبّة الغامرة والرّحمة اللّامتناهية التي يقابلنا بها الرّبّ في كلّ مرّة قررنا أن نتوب.
- باب الفرح:
فرح يشبه فرح الطفال عندما يرتكبون هفوة ما ثمّ ينظرون في عينيّ والديهما ويهرعون إليهما واثقين بأنّ يديهما مفتوحتين أبداً رغم كلّ شيء. عندما نتوب ونولد من جديد تتجدّد في داخلنا محبّة الله المزروعة فينا منذ البدء، وتشعل توقاً عظيماً إلى المكوث معه أبداً. فالتّوبة هي لمس محبّة الله لمساً محسوساً وليس نظريّاً، تفهمه الرّوح الإنسانيّة وتشعر به وإن لم تُجد التّعبير عنه.
" اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً" ( يوحنا 24:16). والفرح الكامل لا يكون إلّا بحضور الرّبّ في حياتنا، وذلك بإزالة كلّ شائبة من نفوسنا حتّى يسكن في كلّنا ولا يبقى مكاناً فينا خالياً من حضوره. ذلك هو الفرح الكامل، وهو أن تكون حياتنا حياته وحياته حياتنا وأن يتوجّه كل فعل يصدر منّا إليه ويتحقّق بحسب مشيئته التي هي فرحنا.
- باب الحرّيّة:
عندما نخطئ أمام الله نعي تماماً صعوبة القيد التي تفرضه أثقال الخطيئة علينا حتّى وإن لم نعترف بذلك. تلك هي العبوديّة الحقيقيّة، عندما تأسرك أنانيّتك وتمسكك نفسك عن اقتبال محبّة الله، فتضطرب وتقلق وترتبك. من هنا نفهم معنى الحرّيّة في المسيح كما نفهم عظمة الله. فالارتباط به يشبه المكوث على قمّة العالم والتّحليق إلى فوق دون أيّ قيد.
من ارتبط بالمسيح تحرّر من كلّ شيء وأصبح فارغاً إلّا من الحضور الإلهي. فلا يأسره فكر أو رأي ولا تستحوذ عليه أنماط الحياة السّطحيّة والهشّة، ولا تخضعه الشّريعة لحروفها المتحجّرة ولا تجرفه أمواج هذا العالم التّعيس ولا يسحقه الموت.
أنت مسيحي إذن أنت إنسان حرّ. وقرار التّوبة هو قرار بلوغ الحرّيّة والسّير في طريقها حتّى ننالها بيسوع المسيح. فافتح لنا أبواب التوبة يا واهب الحياة، لأنّ أرواحنا تبتكر إلى هيكل قدسك، آتين بهيكل أجسادنا مدنّساً بجملته. لكن بما أنّك متعطّف نقّنا بتحنّن مراحمك". أمين.