( شفاء برتيماوس الأعمى مر10/46-52)
غالباُ ما تكون عيوننا الّتي هي قيمة بحد ذاتها أداة لعدم الرّؤية، وغالباً ما يربكنا نظرنا فنغدو مشوّشين. فالبصر الحقيقيّ هو بصر القلب والضّمير، العين الثّالثة الّتي بها نرى يسوع المسيح.
أعمى أريحا أبصر يسوع المسيح ببصيرته، بإيمانه الحيّ وهو الّذي هتف صارخاً: " يا ابن داوود ارحمني"، ولم يقل يا يسوع النّاصري والفرق كبير. إذ إنّ أعمى أريحا مدرك بإيمانه أنّ مخلّصه هو يسوع المسيح ابن داوود. ويسوع علم أنّ الأعمى مبصر، هذا ما أراد بقوله ( إيمانك شفاك). ولقب " ابن داوود "، يعني أنّ يسوع النّاصريّ هو رجل تكلّم عنه الأنبياء. هو مَن سيرسله الله إلى شعبه، حاملاً كلّ المواعيد المسيحانيّة، أي الخلاص للنّاس كما تنبّأ آشعيا: " العميان يبصرون، والبرص يطهّرون، والعرج يمشون، والموتى يقومون، والأسرى يطلقون." هكذا قرأ يسوع في الهيكل وقال أنّ الآية تمّت اليوم، أي أنّه هو مَن يتكلّم عنه آشعيا. ولكنّ هذا الأعمى لم يكن هناك، هو في أريحا وليس في النّاصرة، وهذا يعني انّ الرّوح القدس ينير قلوب كلّ النّاس، وأنار قلب الأعمى فانفتح قلبه لله.
الإيمان هو علاقة حبّ عميق بشخص يسوع المسيح، وارتباط وثيق به، فنصدّق كلّ ما يقوله لنا. ينير الإيمان قلوبنا وضمائرنا، فنقف أمام السّيّد فتنكشف حياتنا كلّها، بل كياننا الإنساني كلّه بما يحمل من شوائب تعمي أبصارنا. " إفتح عينيّ فأبصر عجائب من شريعتك" ( مز 119/18). والإيمان هو الثّقة المطلقة بكلمة المسيح المحبوب، الضّابط الكلّ والعالم بما في قلوبنا من رغبات قبل أن تولد فينا. إلّا أنّ السّيّد يسأل الأعمى: " ماذا تريد أن أصنع لك؟" . قد يكون سؤاله غريباً وهو يرى أنّ من أمامه أعمى، ولكنّ الرّبّ، المعلّم، يريد بهذا السّؤال تعليم ذلك الجمع الّذي انتهر الأعمى وطلب منه السّكوت، أنّه أعمى والأعمى هو المبصر الوحيد.
وكلّ منّا أعمى ما لم تنفتح فينا عين أخرى غير العين الجسديّة. فعيننا لا قيمة لها ما لم يكن وراءها عين أخرى تفتحها على عالم ثانٍ. وهذه العين هي عين الإيمان الّتي تجعلنا نرى بعيوننا أو بدونهم، عالماً آخر، يفوق عالمنا الحاضر. عين الإيمان هي الانفتاح على محبّة الله، على عالم الإنجيل الّذي لا ينتهي بنهاية العالم. هي تساعدنا على فهم ما نرى، وتقوّي إرادتنا ومحبّتنا وتثبّت خطانا. " إنّ كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي "( مز 119/105).
يا ربّ نريد أن نبصر، فمن شدّة انبهارنا بقيود العالم فقدنا بصرنا. عميان نحن يا سيّد، فهبنا أن نراك وسط جماهير غفيرة تبتغي مسيحاً زعيماً، أو مقاتلاً، أو ملكاً زمنيّاً ينتهي بانتهاء الزّمن.
يا ابن داوود ارحمنا، أنر سبلنا المتعرّجة فتستقيم. اهدِ قلوبنا إلى نورك العذب الرّقراق فترتفع عن عالم زاخر بالأضواء الباهتة، فنعبر إليك بخطى ثابتة ونسكن فيك حتّى نحيا.
أيّها السّيّد المنزّه، يا نوراً من نور، نريد أن نبصر، أتعبنا العمى، وضللنا، وها نحن نتخبّط في أرض الشّقاء. خذ عيوننا المبصرة أيّها المسيح الحبيب وهبنا نور قلبك الأزلي فنبصر.
مادونا عسكر/ لبنان