موت القلب
قد يتساءل البعض عن معنى هذا العنوان، فمَن من البشر لا يعي أو يسلّم بأنّه حين يموت القلب، يموت الإنسان؟
وهل هذه النتيجة تحتاج إلى كتابة موضوع؟
إن موت القلب الذي سيتناوله هذا الموضوع ليس موت القلب اللحمي إنّما موت القلب الروحي
الذي يحتلّ مركزاً كبيراً في الكتاب المقدّس وفي التقليد الآبائي.
الحقّ أنّ الكلّ يعي أهمية القلب العظيمة في حياته لأنّه مصدرها، لكن قلّة نادرة هي التي تدرك أنّ مصدر الحياة
هذا يمكن له أن يكون أيضاً مصدراً للموت،
وهنا أيضاً الكلام هو على الموت الروحي. فموت القلب الروحي لا يفترض موتَ الإنسان، فكم من الأحياء قلوبهم مائتة!
استعمل الآباء صوراً وسماتٍ متعددة لكي يعبّروا عن القلب الروحي. لكن لا نستطيع في هذا الموضوع المحدود أن نعدد سماته كلّها.
ما يمكن أن نقوله، بكلّ اختصار، هو أنه مركز الكائن البشري، وأصل مَلَكَتي الفكر والمشيئة الفاعلتين،
والنقطة التي تنشأ منها كلّ الحياة الروحية وإليها تعود.
لهذا، القلب الذي هو مركز الوجود الإنساني ومركز العالم الروحاني، والذي يقول عنه الكتاب المقدّس والآباء إننا نجد فيه
"الله والملائكة والحياة والملكوت والنور وكنوز النعمة"، عندما يكفّ عن أن يسلك بحسب إرادة الله، ويفعل رغبات الشيطان،
فإنّه يمرض ويموت ويصبح إناءً يحوي كلّ الرذائل. أوَ ليس البغض والتصلّب والقساوة
وعدم الاستقامة والتهاون والجهل ونسيان الله صوراً للموت؟
أليس الخضوع لهيمنة الحضارة الحديثة التي تفقِد الإنسان سيطرته على داخله، إكليريكياً كان أم علمانياً،
وتجعله مجروراً في تطبيق الموضة، ولو على حساب الكنيسة وأسرارها، صورة للموت؟ وماذا عن التشتت الذي نحياه اليوم،
أو التغرّب عن ذواتنا، أو الوحشيّة الاجتماعية التي تجعل الإنسان لا يلتقي بالآخر الذي هو بقربه إلا للأعمال والمصالح،
أو الرغبة التي تتصاعد عند الشباب خاصةً، بالتفلّت من المجتمع وتعاطي المخدرات،
أو غيرها من الممارسات المشينة، أليست كلّها صوراً متنوعة لهذا الموت؟
وهنا يُطرَح السؤال: كيف للنعمة الإلهية والشيطان أن ينوجدا في نفس المكان؟
أو كيف يخرِج القلب أفكاراً صالحة وأفكاراً شريرة من ذاته في نفس الوقت؟
على هذا يجيب الآباء بأن الإنسان يقتبل نعمة الله بالمعمودية المقدّسة منذ الطفولية وهي تفعل فيه من الداخل،
أي داخل القلب والضمير، على رجاء أنه، عند بلوغه سنّ الرشد، سيتعهّد من ذاته وبقرار من إرادته الذاتية
أن يبذل بغيرة كلّ ما بوسعه في سبيل الخلاص.
لهذا، فالشرّ يدخل إلى القلب أو يخرج منه بالمشيئة، أي بالإرادة الحرّة.
فالإنسان بسبب كونه كائناً حرّاً يستطيع أن يقبل إرادة الله أو يرفضها،
أن يجعل قلبه سماءً لسكنى الله أو يمسي كائناً فارغاً مفعماً بالأهواء.
في الختام، إن قلوبنا كلّها مريضة وتسعى إلى الشفاء، والتوبة هي الدواء الشافي الأوّل، وهي بدء الحياة الروحية. فالإنسان قادر.
أن يتوب عن خطاياه أو أن يستمر بها، تماماً كما أن التوبة هي رجعة طوعية إلى الله،
فالخطيئة هي انفصال حرّ عنه.
والعودة إلى الذات تكون في القلب حيث يتمّ الالتقاء بالمسيح. فإذا كانت الذبيحة لله روحًا منسحقًا،
فالروح المنسحق هو قلبنا عندما ندينه ونحاكمه ونلوم أنفسنا ونقف أمام الله كمحاكَمين مكسوري القلب.
لأنّ قساوة القلب هي من الكبرياء ومن حبّ الدنيويات والمراءاة والكذب، بينما مَن
يبكي خطاياه فهذا يقدّم الذبيحة الحقيقيّة لله.