جورج خضر، المطران الشاعر في رحاب اللاهوت والعلمنة
المطران جورج خضر
بقلم : جوانا عازار
في طرابلس ولد، ومنها انطلق إلى رحاب اللاهوت والفلسفة. امتهن الحوار، فجعله أسلوب عيش وتلاقٍ. ميتروبوليت جبل لبنان للروم الأرثوذكس منذ عام 1970. قرّبه فهمه العميق للدين واللاهوت من فكرة الشعراء عن الله والوجود، ولذلك اتسمت كتاباته في “النهار” بنبرة شعرية خاصّة خلطت بين الاستعارات السماوية وحداثة اللغة، فكان صديقًا لمجايليه من شعراء الحداثة، أمثال أنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال.
فيلسوف، مطران أو كاتب… صفات يرى المطران جورج خضر أنها لا يتنافى بعضها مع بعض. “أنا لست فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي” يقول مضيفًا “يجوز أن يُقال إنني كاتب بما أنني أكتب منذ 60 سنة، وقد يُقال إنني مفكر ذو لون فلسفي عمومًا، وخصوصًا لاهوتيّ. وفي حياتي، أنا مطران”.
المطران الذي ولد عام 1923 في طرابلس، يتذكر أن مدينته كانت قرية كبيرة بعدد سكانها، لا يتجاوز 70 ألف نسمة. يتذكر شوارع المدينة القديمة الداخلية التي عاش فيها لفترة وتردد إليها كثيرًا. رافق تاريخ المدينة في الخيال، وخصوصًا أنه يعشق دراسة التاريخ. لا يمكنه أن ينسى أنه عندما كان في العشرين وتحديدًا في 11 تشرين الثاني 1943، كاد أن يُقتل خلال مشاركته في تظاهرة سلمية لطلاب المدارس والجامعات على الطريق الممتدة نزولاً من التل باتجاه المينا في طرابلس. حينها شقت دبابة فرنسية طريقها بين صفوف المتظاهرين، ما أدى إلى مقتل 11 شاباً. يقول عن الحادثة “رميت حينها الكذبة الاستعمارية التي تعلمناها في المدارس الفرنسية وأبقيت على الثقافة الفرنسية”. يؤكد أن الكثير من التعاليم المسيحية ورثها من الرهبان الفرنسيين في مدرسة “الفرير” من خلال تعاطيهم اليومي والأخلاقيات التي يتعاملون فيها مع الطلاب من دون تمييز.
لطالما كان ضدّ الظلم وحليفًا للفقير، توجّه إلى دراسة الحقوق، “المهنة التي تنصر العدالة”، فنال الإجازة من “جامعة القديس يوسف” عام 1944، وتدرج في المحاماة ومارسها لفترة قصيرة قبل أن يتوجّه عام 1947 إلى فرنسا، حيث تابع دراسته هناك. نال عام 1952 إجازة في اللاهوت من “معهد اللاهوت الروسي الأرثوذكسي” في باريس أيضًا، تعلم الكثير عن الفن والتاريخ، ولفتته الثقافة القائمة على احترام الإنسان، وأثرت فيه “الحضارة البعيدة عن الطائفية والمحسوبيات في بلد يخضع فيه الجميع لسلطة القانون”، وهذا ما يراه المطران خضر “منقذًا للحياة والكرامة البشرية”.
وعام 1952 أيضًا، سيم راهبًا مبتدئًا في “دير مار جرجس الحرف” (محافظة جبل لبنان)، يتحدّث المطران عن نشأته في بيتٍ تربى فيه على الإيمان والالتزام الديني. أمّا ما دفعه لأن يصير كاهنًا، فهو “حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة” التي كان أحد مؤسسيها بعد جهد كبير قدمه في الحركة، قال لنفسه “لابدّ من أن يكون لهذه الكنيسة لاهوتيون وعلماء”. وبعد دراسته اللاهوتن أحسّ بأن معرفة اللاهوت لاتكفي، بل يجب أن يكون “هناك من يخدم الرب”، فاختار الكهنوت. كان خضر أول من دعا إلى إعادة تأسيس الرهبنة الرجالية، ولولا اعتباره أن “الله كل الوجود” لما استطاع النجاح ورفاقه في مهمتهم. سلاحه؟ قوة المحبة التي تشكل الركن الأساسي في المسيحية. يقول “أن تكون كاهنًا يعني أن تكون صاحب الأمر وأن تأمر بالحب فقط، فالحياة الكنسية هي حركة حب من الكاهن إلى الشعب وبالعكس، وكل الباقي هو ترتيب لذلك”.
ما ميّز عمله كمطران لأبرشية جبل لبنان؟ أولاً، “نشر الكلمة”. نشر خضر الكلمة في صحيفة “لسان الحال” وبعدها في صحيفة “النهار” إلى جانب عدد من المجلات الأوروبية والأهمّ “لم أكن أرسم كهنة أنصاف جهلة. وبنيت عشرات الكنائس، وخصوصًا بعد انهيار قسم منها أثناء الحرب الأهلية”.
الأسقف (المطران) لا يرعى حسب خضر أبناء كنيسته حصرًا. يرى نفسه مطرانًا للروم والموارنة والإسلام والدروز، يخدم قدر المستطاع ويعتبر نفسه مسؤولاً روحيًّا عن الشعب كله. هذا الأمر قاد المطران خضر منذ أكثر من 40 عام إلى الحديث عن الحوار الإسلامي المسيحيّ، وخصوصًا أنه درس شخصيّات الدين الإسلامي من ضمن الحضارة العربية في الجامعة اللبنانية في منتصف الستينيات. اكتشف خضر أنّ كل فريق يعرف كيف يوضّح ديانته للآخر. فالمسيحيّ المتنوّر هو الذي يكشف العقيدة المسيحيّة. تمامًا كما المسلم المتنوّر : “سرنا في الحوار شوطًا وظهرت قناعة بأنّ هاتين الكتلتين يجب أن تتعارفا وتتلاقيا. فالحوار هو فكريّ ونقاش لعقيدة الآخر. هذا الحوار يستكمل على قدر استجابة الفريق الآخر”، إلاّ أنه اصطدم في الفترة الأخيرة بالعودة إلى الطائفية. أمّا الحلّ فيبقى حسب خضر في العلمنة. “أنا كمطران أربح في العلمنة” يقول شارحًا أن اعتماد العلمنة يطرد عن الكنيسة ذوي المصالح الضيقة والمستفيدين. “هذا سيحقق، لكنه يحتاج إلى وقت. سيحقق الخلاص من المحنة الحاضرة وسيسود السلام هذا الشرق”. أمّا عن لبنان، فينظر إليه على أنّه “صيغة. هو بحاجة إلى طهارة بحيث تكون الدولة نظيفة وحامية لمواطنيها من دون أن يكون لها لون طائفيّ. يجب أن تكون هناك دولة تكافح الظلم والسرقة والهدر… وكلها شروط غير متوافرة حتى الساعة”. لكن هذا لا يمنع المطران من أن يحلم بتطبيق قانون مدني يتساوى أمامه اللبنانيون، وتلغى الطائفيّة ويبقى الإيمان.
كيف يمضي المطران نهاره؟ يدأب على الصلاة قبل الفطور، ثم يتهيَّأ لاستقبال الضيوف والمواطنين لمتابعة أمورهم ومشاكلهم. العمل في المطرانية مقسم بين المعاونين والمستشارين، ولكل منهم صفته ووظيفته، إلى جانب أشخاص من خارج المطرانية يستشيرهم. أمّا فترة بعد الظهر فهي مخصصة لحضور المناسبات والمآتم، قبل أن ينصرف مساءً للقراءة، وخصوصًا الكتب المتخصّصة في التاريخ والفكر السياسي واللاهوت.
ماذا تعني له القدس؟ القدس التي ألف لها كتاب “القدس” تعني له فلسطين، والشعب الفلسطيني الذي كان ساكنًا منذ مئات السنين ثمّ هجّر. كان يتمنّى أن تكون القدس موطنًا للمسلمين والمسيحيّين واليهود معًا : “لا يمكنني أن أتقبّل هذا الظلم الدولي تجاه الشعب الفلسطيني. حلمي أن تتعايش هذه الأديان الثلاثة بمحبّة حقيقيّة، وهذا ممكن إذا وجدت الدول حلاًّ للقدس”. لا يخاف المطران على مصير المسيحيّين في الشرق؛ هو لا يخشى تكرار ما جرى معهم في العراق : “التعايش في كل من لبنان، سوريا، الأردن وفلسطين قويّ جدًّا” يسرد في هذا الإطار تاريخ تعرّض المسيحيّين للموت، ليؤكّد أنّ “خطر الموت يعطي الشجاعة والشهادة للحقّ” وحين نسأله عن الله، يقول : “ما أرجوه هذا العام أن تكتمل توبتي قبل أن ألتقي الله أخشى المواجهة لأنّني أعرف جمال الله وإصراره على أن نكون أنقياء”. ويختم بقصّة عن المطران غريغوار حدّاد الذي قالت له امرأة مرّة بأنّ يديه جميلتان، فأجابها : “هاتان للتراب”.
خمسة تواريخ
1923 : الولادة في مدينة طرابلس – شمال لبنان
1944 : حصل على إجازة في الحقوق من “جامعة القدّيس يوسف”
1954 : سيم شمّاسًا ثمّ كاهنًا.
1970 : انتخب بالإجماع مطرانًا على جبل لبنان خلفًا للمطران إيليّا كرم.
2012 : ينشط في الوعظ والمحاضرات الهادفة إلى تعزيز الحوار بين الأديان.
العدد 1794 الأربعاء 29 آب