إعداد راهبات دير مار يعقوب – دده
كان هذا البار ذا بنية جسديّة ضعيفة منذ ولادته، إذ بقي طوال حياته يعاني من علل كثيرة نالت مختلف أعضاء جسده، لكنّها لم تستطع أن تطال صلابة ولا سموّ روحه، بل بالحري أتاحت له الفرصة كي يحفظ إناء نفسه نقيّاً طاهراً لم تفسده الأهواء ولا دنّسته الرّذائل.
كان بيمن يرغب منذ نعومة أظفاره أن يصبح راهباً لكنّ أهله كانوا يعارضونه ويقاومون رغبته هذه بشتّى الطّرق. وفي أحد الأيّام، وقد اشتدّ به المرض حتّى شارف على الموت، قرّر أهله أن يصحبوه إلى دير اللافرا في كييف حيث كانوا يقطنون عساه يُبرأ بصلوات رهبان الدّير. أمّا القدّيس فإذ كان يعلم حقّ العلم، في قرارة نفسه، أنّه إذا شُفي فسوف يُبعده أهله من جديد عن الدّير، ولن يتسنّى له فيما بعد أن يزوره ولا أن يصبح بين عداد رهبانه، راح يصلّي بحرارة كبيرة كي لا يمنّ الله عليه بنعمة الشّفاء. فاستجاب الرّبّ لطلبته إذ لم تُجدِ نفعاً كلّ صلوات الآباء، فاضطّر ذووه أن يتركوه في الدّير عسى الله يتحنّن عليه في يوم من الأيّام ويمنحه البرء والشّفاء.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان الجميع نياماً، ظهر لبيمن جوق من الملائكة بهيئة رئيس الدّير مع الإخوة الرّهبان قائلين له: " لا تخف إنّ ما تعانيه من أمراض إنّما هو لخيرك وخلاصك وليتمجّد بك اسمه القدّوس. ولكنّك لن تحظى بالشّفاء الكامل إلاّ قبل ليلة واحدة فقط من رقادك. ثمّ ألبسوه الزّيّ الرّهباني وتوشّح بالإسكيم المقدّس باحتفال مهيب وأُعطي اسم بيمن. ناولوه بعد ذلك شمعة واحدة وأوصوه بأن يتركها مضاءة مدّة 40 يوماً و40 ليلة.
استفاق الرّهبان على أصوات التّراتيل والتّرانيم التي كانت تصدر من قلايّة المريض. فهرعوا مسرعين ليتحقّقوا ما يجري، وإذا بهم يرون العاجز المريض مرتدياً الملابس الرّهبانية، ومازالت رائحة طيب زكيّة تعبق في القلايّة، وتحقّقوا من صحّة تكريسه هذا عندما وجدوا ثيابه العلمانيّة وشعره المقصوص موضوعين على ضريح القدّيس ثاودوسيوس (مؤسّس دير الكهوف في كييف) في الكنيسة. بعد هذا الحدث العجيب، استطاع بيمن البقاء في الدّير بموافقة الرّئيس.
بقي بيمن يعاني ولسنين طويلة من أمراض خطيرة، متعرّضاً لآلام رهيبة مريعة كانت تدعو الإخوة لليأس من شفائه وللتّذمّر في كثير من الأحيان من خدمته والاعتناء به، فكانوا يتركونه مراراً كثيرة، ولعدّة أيّام، دون أن يقدّموا له الحاجات الضّروريّة من طعام أو شراب... كما وضعوا معه في قلايته أخاً آخر مريضاً. وبما أنّ الإثنين كانا يشتكيان من النّقص في تأمين حاجيّاتهما اليوميّة، سأل بيمن رفيقه المريض إن كان يقبل بأن يخدمه إن حظي بالصّحّة التّامة. فقبل الرّاهب، وبكلّ فرح، عرضه هذا. ثم ما لبث أن برء هذا الرّاهب بعد أيّام معدودة بصلوات البار بيمن.
وفى هذا الأخ بوعده من تقديم المساعدة اللازمة لبيمن، لكنّه ما لبث هو الآخر أن بدأ يتضجّر ويتأفّف من أمراض بيمن الكثيرة. فتركه كما فعل الآخرون وذهب ليقيم في قلاية أخرى. وبتدبير إلهي وقع من جديد طريح الفراش إذ ابتُلي بمرض خطير كان يعاني بسببه من عطش مستمرّ لا يُروى له فيه غليل أبداً.
أخبر الرّهبان بيمن البار عن حالة الأخ فأجابهم: " إنّ ما نزرعه إيّاه نحصد أيضاً " (غلا7:6). ولكنّ رأفته ومحبّته للأخ غلبتا مبادلة السّوء بالسّوء، فطلب أن يرى المريض. وما أن نهض هذا الأخير من فراشه حتّى شعر بالتّحسّن وتعافى كليّاً. فهرول يطلب السّماح من القدّيس الذي بادره قائلاً: "اعلم يا أخي، إنّ الذين يهتمّون بالفقراء بفرح ويخدمون المرضى بصبر، ينالون جزاء أتعابهم في الحياة الأبديّة ولا ينتقلون إلى الموت ولا يرون فساداً ". ثم أضاف بأنّه هو تحمّل بفرح كلّ صعوبات أمراضه وآلامه المبرّحة دون أن يطلب من الله الشّفاء لثقته التّامة بوعد السّيّد القائل: "بصبركم تقتنون أنفسكم (لو:19:21) ". لذا فهو يتمنّى أن ينال عوض هذه الأتعاب الرّاحة في الحياة الآتية حيث ينتفي كلّ حزن وألم. ومنذ ذلك الحين لم يعد هذا الرّاهب يفارق القدّيس بيمن، وكأيّوب آخر لم يكن يكفّ عن شكر الله في كلّ تجربة أو ضيق يتعرّض لهما.
عاش بيمن في الدّير ينعم بسلام وهدوء داخليين بالرّغم من بلاياه مدّة 20 سنة. وفي ليلة انتقاله، شوهدت ثلاثة أعمدة من نور تظلّل الكنيسة وغرفة الطّعام. وفي صباح اليوم التّالي وُجد القدّيس في حالة صحيّة جيّدة، فقام يتنقّل في الدّير ويزور الإخوة في قلاليهم شافياً السّقماء منهم، ثم دخل الكنيسة حيث اشترك في القدّاس الإلهي وتناول الأسرار المقدّسة. ذهب بعد ذلك برفقة بعض الإخوة لزيارة مغارة القدّيس أنطونيوس (المؤسس الأول لدير الكهوف) الموجودة في كييف للتّبرّك منها وحدّد المكان الذي كان يريد أن يُدفَن فيه. ثم ما لبث أن نظر إلى الإخوة وقال مسبّحاً ومترنّماً: " ها قد أتى أولئك الذين ألبسوني الزّيّ الرّهباني لكي يأخذوا نفسي ". قال هذا وتمدّد على سريره وأودع نفسه بسلام، تلك النّفس المؤمنة ذات الرّجاء الذي لا يخيب الذي بربّنا يسوع المسيح. لقد رسم آباء الدّير أن يُعيّد له في 7 آب أي يوم رقاده. فبصلواته اللهم ارحمنا وخلّصنا آمين.
عن كتاب دير الكهوف (باليونانية)