للأب سامي حلاق اليسوعي.
===================
1- ايقونة : صاحبة الجلاله .
اصل ومنشأ .
تبيّن لنا التنقيبات الأثريّة في الدّياميس أنّ تصوير زيارة المجوس كان من أحبّ الرسوم الجداريّة إلى قلوب الوثنيّين المتنصّرين. فالمشهد لا يصوّر حدثًا من طفولة يسوع وحسب، بل يبيّن أنّ غير اليهود مدعوّون أيضًا إلى تقديم الإكرام الواجب للمسيح، وأنّ الكنيسة لا تنحصر في أبناء إبراهيم، أي اليهود، بل إنّها تشمل كلّ مَن يؤمن بالمسيح فاديًا ومخلّصًا. فليس فيها فرق "بين يهوديّ أو يونانيّ، وليس هناك عبد أو حرّ، وليس هناك ذَكَر أو أنثى" (غلاطية 3: 28).
يصوّر مشهد زيارة المجوس مريم العذراء جالسة على عرش والطفل يسوع على ركبتيها، والمجوس يقتربون منها حاملين الهدايا بأيديهم المغطّاة بطرف ردائهم. وثابر المسيحيّون على استعمال الخطوط العامّة لهذا المشهد بعد السلام القسطنطينيّ، ورسموا شخصيّات أخرى كالشهداء أو العذارى أو الملائكة بدل المجوس. وأخذ هذا النمط اسم صاحبة الجلالة، لأنّه يصوّر العذراء جالسة على عرش فاخر يشبه العرش الإمبراطوريّ، مرصّع بالجواهر الثمينة، وتغطّيه الأقمشة النفيسة. وتبدو على العذراء سمات الوقار والجاه. فقد أسقط الفنّانون مشاهد العظمة والأبّهة الّتي كانوا يرونها في البلاط على مريم، للتعبير عمّا يكنّونه لها من إجلال واحترام. وتعكس كثير من الأناشيد الّليتورجيّة مقام العذراء في هذا الرسم. وخير دليل على ذلك ما جاء في صلوات المدائح.
--------------------------------------
عذراء الكعبة :
انتشرت صورة السيّدة صاحبة الجلالة في جميع البلدان داخل الإمبراطوريّة البيزنطيّة وخارجها. فأبو الوليد أحمد بن محمّد الأزرقيّ، وهو مؤرّخ عربيّ من القرن التاسع، يقول إنّ هذا النمط من أيقونات العذراء والطفل كان موجودًا في الكعبة الشريفة:
"... وعلى العمود المحاذي لباب الكعبة صُوِّر ( المقصود به الرب يسوع المسيح )جالسًا على الركبتين ومتّكئًا إلى صدر أمّه مريم عليهما الصلاة والسلام". وحين فتح محمّد (صلعم) مكّة في السنة 630، حطّم أصنام القبائل الوثنيّة، وكان عددها 360 صنمًا، لكنّه حافظ على صورة يسوع ومريم. "... وبعث رسول الّله (صلعم) يُحضِر من ماء زمزم ... وأمر بأن يُبلّل قماش به. ووضع راحتيه على صورة ( المقصود به الرب يسوع المسيح )وأمّه عليهما الصلاة والسلام وقال: "امحوا جميع الرسوم إلاّ ما ظلّلته يداي" . زال هذا الرسم المريميّ الهام في حريق الكعبة الشريفة في أثناء حصار مكّة في السنة 683م حين هاجمها حسين بن النمير، أحد قادة الخليفة معاوية.
الصفات المميزة
تبدو العذراء في الأيقونات من هذا النمط صامتة ساكنة. ظهرها مستقيم، وتنظر إلى المشاهد، وتحيط الطفلَ بيديها في رقّة وحنان. ويجلس الطفل في حضنها مستقرًّا بوقار، يمسك بيده اليسرى لفافة ورق، بشرى الخلاص الّتي أعلنها للخليقة، ويبارك باليد الأخرى . هذا ما عبّر عنه يوحنّا الدمشقيّ في أحد أناشيده: "يداها تحملان الأزليّ وركبتاها عرش أسمى من الشاروبيم. إنّها العرش الملكيّ الّذي يتأمّل الملائكة عليه سيّدهم وخالقهم".
في غالب الأحيان، يرسم الفنّانون صاحبة الجلالة في صورة كلّيّة، أي من الرأس حتّى أخمص القدمين. ولاتلبس في رجليها صندلاً، كما هو الحال في أيقونات القدّيسين، بل تبدو قدماها شبيهة بأقدام الملائكة، دلالة على سموّ مقامها. ولعلّ أفضل نشيد يفي بمعاني ما تعبّره الأيقونة من هذا النمط هو نشيد الذّهبيّ الفم الّذي يُتلى في قدّاس القدّيس باسيليوس الكبير: "إنّ البرايا بأسرها تفرح بكِ يا ممتلئة نعمة. محافل الملائكة وأجناس البشر لكِ يعظّمون. أيّها الهيكل المتقدّس والفردوس الناطق وفخر البتوليّة، الّتي منها تجسّد الإله وصار طفلاً، وهو إلهنا قبل الدهور. لأنّه صنع حضنكِ عرشًا، وجعل بطنكِ أرحب من السموات. لذلك، يا ممتلئة نعمة، تفرح بكِ كلّ البرايا وتمجّدكِ".
-----------------------------
المرشدة :
تشغل أيقونة السيّدة المرشدة مكانة خاصّة بين أيقونات العذراء والطفل. فقد استعمل الغرب نمطها في كثير من لوحاته، وأدخل عليها تعديلات بحسب ثقافة كلّ شعب من شعوبه. يعتقد بعض الباحثين أنّ هذا النمط سوريّ الأصل. لكنّه لم يظهر إلاّ بالقسطنطينيّة في عهد الإمبراطور يوستينيانُس. ويُروى أنّ القدّيس لوقا رسم العذراء مريم بحسب هذا النمط، وتدّعي بلدان كثيرة حيازتها على أيقونة صنعها لوقا الإنجيليّ نفسه . لا ندري مدى صحّة هذا التقليد، فالمعلومات المتوفّرة لدينا تسمح لنا بطرح كثير من التساؤلات.
1- يعود تاريخ أوّل ذكر لهذا التقليد إلى القرن السادس (حوالى 530)، فقد كتب ثيودورُس القارئ أنّ إفدُكسيوس أرسل أيقونة القدّيس لوقا من أورشليم. والذكر الثاني أتانا من أندراوس الكريتيّ ( 767). فبين أيّام لوقا وهذه المصادر مدّة طويلة.
2- إذا كان لوقا هو الطبيب المذكور في الرسالة إلى أهل قولُسّي (4: 14)، فإنّه قد عرف العذراء وهي متقدّمة في السن، ترتدي ثيابًا بسيطة مثل سائر النساء اليهوديّات. فكيف يرسمها شابّة مع الطفل يسوع، وترتدي ثوبًا فاخرًا مزركشًا كملكات القسطنطينيّة؟ وكيف يرسم في الأيقونة رموزًا لم تُعرف إلاّ في القرون المسيحيّة الّلاحقة؟
3- من المعروف أنّ أحد أساقفة طيبة في مصر، واسمه لوقا، عاش في أواخر القرن الرابع ورسم أيقونة للثيوطوقوس. فلايمكننا إذًا استبعاد احتمال الخلط بين الاسمين، خصوصًا وأنّ أسلوب الرسم ينتمي إلى قرون لاحقة، وتحمل العذراء علامات أضيفت بعد المجامع كما أشرنا سابقًا.
ومع ذلك، يتساءل المرء لماذا نُسِبَت الأيقونة إلى لوقا دون سواه من الرسل أو المبشّرين، خصوصًا وأنّه ما من مرجع يشير إلى أنّه احترف الرسم أو هويَه؟ في رأينا، نُسِبَ الرسم إلى لوقا لأنّه أكثر من وصف في إنجيله حياة العذراء وطفولة يسوع. بمعنى آخر، صوّر لوقا مريمَ وابنَها باستعمال الحرف. على كلّ حال، مهما يكن الأمر، لاقت هذه الأيقونة انتشارًا واسعًا في الشرق والغرب كما قلنا. فإذا كانت نسبتها إلى لوقا سبب شهرتها، من أين لها اسم "المرشدة"؟
يُقال إنّ أمّ الّله ظهرت في القسطنطينيّة لأعميين، وأمسكت بيديهما وقادتهما إلى مزار فيه هذه الأيقونة، وأعادت إليهما البصر. ومنذ ذلك الحين، يأتي العميان وأصحاب العلل البصريّة ويغسلون وجوههم بماء النبع المجاور للمزار، لينالوا الشفاء. تبيّن هذه القصّة أنّ مريم تهدينا إلى طريق الّله، فسُمّيَت "" أي الّتي تشير (ترشد) إلى الطريق.
===============
الأيقونة العجائبية :/images/104.jpg" alt="" border="0">
يقول تقليدٌ يعود إلى أيّام محنة تحطيم الأيقونات، أنّ القدّيس لوقا الإنجيليّ لم يخترع نمط أيقونة المرشدة، وإنّما رسَمه فقط. فمنشأ النمط سماويّ كما هو الحال في أيقونة الوجه المقدّس، وهذه هي حكايته:
هدى القدّيسان بطرس ويوحنّا جماعة كبيرة في الّلدّ وبنيا فيها كنيسة كرّساها للعذراء. وذهبا إلى مريم يسألانها أن تزور الكنيسة لتباركها فأجابتهما: "اذهبا بفرح فأنا سأكون معكما!". وحين وصلا إلى كنيسة الّلدّ وجدا على أحد أعمدتها صورة العذراء مرسومة بطريقة عجائبيّة - لم تصنعها يد إنسان -. وبعد فترة، أتت مريم وزارت الكنيسة وباركت الصورة ومنحتها نعمة اجتراح المعجزات. وفي القرن الرابع، أرسل يوليانُس الجاحد نحّاتين لينزعوها، فعجزت أدواتهم حتّى عن خدشها، مما أدخل الغبطة في قلوب المؤمنين. وصار النّاس يأتونها من كلّ حدب وصوب ليقدّموا لها الإكرام وينالوا النِعَم بواسطتها.
قبيل اندلاع محنة تحطيم الأيقونات، أراد راهب فلسطينيّ اسمه جرمانُس أن تكون عذراء الّلدّ العجائبيّة معه دائمًا في سفره إلى القسطنطينيّة، فطلب من رسّام أن يصنع له أيقونة مثلها. وانتُخِبَ هناك بطريركًا. وفي السنة 725، قام الإمبراطور لاون الإيزوريّ بحملة لتحطيم الأيقونات، وعزل البطريرك جرمانُس لدفاعه عن الصور، وطَرَدَه من العاصمة. فبعث هذا برسالة إلى البابا غريغوريوس الكبير في روما وثبّتها على الأيقونة وسلّمها لأحد المراكب المبحرة. فقطع المركب المسافة في يوم واحد فقط. وأُخبِرَ غريغوريوس في الحلم بوصول الأيقونة فخرج مع الإكليرُس لاستلامها على ضفّة نهر التيبر، ونقلها في تطواف إلى كنيسة القدّيس بطرس، فجعل الشعب يزورها ويكرّمها، والفنّانون يرسمون العذراء مستوحين منها.
وفي نهاية محنة الأيقونات، أي بعد حوالى قرن من الزمن، بينما كان البابا سرجيوس الثاني يصلّي أمام الأيقونة مع الشعب، تحرّكت من مكانها. فخاف النّاس وجعلوا يرنّمون الـ كيرياليسون، فارتفعت الأيقونة وخرجت من الباب وتوجّهت نحو نهر التيبر، والبابا يتبعها مع الشعب، وعادت إلى القسطنطينيّة في يوم واحد كما أتت، وتسلّمها البطريرك ميتوديوس المعترف، ونُقِلَت إلى الكنيسة في تطواف مهيب، وأُطلِقَ عليها اسم: "الرومانيّة ".
-------------------------------------
العذراء ذات الأيدي الثلاثة border="0">
من أنواع هذا النمط واحد عُرِفَ باسم أمّ الّله ذات الأيدي الثلاثة. تظهر فيها العذراء وكأنّ لها ثلاث أيدي. أمّا حكايتها، فيُروى أنّ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ كان موظّفًا في ديوان الخليفة مثل أسلافه. كان مسيحيًّا عربيًّا يدافع عن الأيقونات دفاعًا شديدًا في وسطٍ إسلاميًّ ينبذ التصوير والصور. وأراد الإمبراطور لاونديوس أن يتخلّص من المدافع الشهم عن الأيقونات، فكتب للخليفة وقال إنّ يوحنّا الدمشقيّ أرسل إليه مخطّط دمشق ليتمكّن البيزنطيّون من دخول المدينة بأقلّ قدر من الخسائر، وأنّه ما وشى به إلاّ ليحافظ على علاقة الودّ مع الخليفة. فصدّق هذا الرواية وعزل يوحنّا وقطع له يده الّتي رسمت مخطّط المدينة. وعاد يوحنّا الدمشقيّ إلى بيته وقدّم يده المبتورة لأيقونة أمّ الّله عنده. فسمع العذراء تعده بالشفاء. وبرئت اليد في اليوم التالي، وانتشر خبر الشفاء في العاصمة الأمويّة. ففهم الخليفة أنّه خُدِعَ، وأراد أن يعيد يوحنّا إلى منصبه السابق فأبى، لأنّه عزم منذ ذلك الحين على أن يكرّس حياته لأمّ الّله وحدها.
وغادر دمشق وتنسّك في دير القدّيس سابا القريب من أورشليم، وكرّس حياته هناك للصلاة والكتابات اللاهوتيّة والروحيّة. وحمل يوحنّا معه الأيقونة العجائبيّة الّتي نال الشفاء بواسطتها. ولكي يعبّر عن عرفانه بجميل العذراء، علّق يدًا ثالثة من الفضّة في أسفل الصورة. وصار الناسخون يرسمون أيقونة العذراء هذه بإضافة اليد وسمّوها: "العذراء ذات الأيدي الثلاث".
يعارض الأب هبّي هذه الرواية معارضة شديدة، وهو مُحِقّ في ذلك. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ لم يترك ديوان الخليفة إلاّ حين بدأ المسلمون يضايقون المسيحيّين، وحين أصدر الخليفة عمر الثاني (717-720) مرسومًا يحظّر فيه على المسيحيّين شغل مناصب رفيعة في الدولة. فكان على يوحنّا أن يختار إمّا الوظيفة والخروج عن دينه أو التخلّي عن منصبه. فترك كلّ شيء ليتبع المسيح معتبرًا عار المسيح غنىيسمو على كنوز البلاد العربيّة. "ويبدو أنّ لا علاقة لهذه الأسطورة مع "الأيقونة الدمشقيّة"، فيرى بعضهم في اليد الثالثة المضافة إلى صورة العذراء رمزًا إلى وساطة البتول غير الخازية وتوسّلاتها الدائمة لدى ابنها الإلهيّ ... ولعلّه (الدمشقيّ) زاد اليد الثالثة على الأيقونة الّتي كان يحتفظ بها ليُظهِرَ هذا الدور السامي الّذي تقوم به الأمّ السماويّة في علاقاتها مع ابنها والبشر.
ظلّت الأيقونة في دير القدّيس سابا حتّى القرن الثالث عشر. حيث حملها سافّا Savva رئيس أساقفة صربيا إلى مدينته. وفي أثناء هجمات العثمانيّين، خشي الشعب عليها من التدنيس، فربطوها إلى ظهر حمار وتركوه بدون قائد. وسار الحمار وحده شهورًا حتّى وصل إلى جبل آثوس، وتوقّف عند باب دير الخلنداري. فتسلّم الرّهبان الأيقونة ونقلوها إلى الكنيسة بهيبة واحترام، ولاتزال هناك إلى الآن.
وبعد أن مات رئيس الدير، اجتمع الرهبان لانتخاب خلف يرأسهم، وتشاوروا طويلاَ فعجزوا. وظهرت العذراء إلى ناسك متوحّد وقالت له إنّها سترأس الدير. وعلامة على ذلك، انتقلت الأيقونة من مكانها واستقرّت على كرسيّ رئيس الدير في وسط الكنيسة. ومنذ ذلك الحين، يدير شؤون الدير مدبّر للرهبان يقف في وقت الصلاة بجانب الأيقونة الموضوعة على كرسيّ رئيس الدير.
الصفات المميّزة
تشبه وضعيّة الطفل يسوع في هذا النمط من الأيقونات وضعيّته في أيقونات صاحبة الجلالة. إنّه يمسك لفافة ورق في يد، ويبارك باليد الأخرى. لكنّ جسمه في بعض الأحيان أكثر حركة. فهو يلتفت إلى أمّه برأسه وجذعه، وفي ذراعيه شيئ من الديناميكيّة. أمّا العذراء، فقد كانت تصوّر طوليًّا وهي واقفة. ومنذ القرن الثالث عشر، انتشرت عادة رسمها في صورة نصفيّة. وهي تميل برأسها غالبًا إلى طفلها وتنظر وإيّاه إلى المشاهد. وتختلف هذه المواصفات من أيقونة إلى أخرى. وبشكل عام، يتميّز نمط أيقونات الدليلة في يد العذراء اليمنى. فهي تضعها أمام صدرها وتشير بها إليه، فتدلّ الناظرين إلى فاديهم ومخلّصهم.
----------------------------
المتضرّعة
الأصل والمنشأ
نجد في الدياميس أكثر من خمسين رسمًا لامرأة ترفع راحتيها نحو السماء في حالة تضرّع. وهذا الرسم يصوّر النفس الّتي تتوق إلى الّله خالقها. وتعوّد المسيحيّون على رسم مريم بهذه الوضعيّة منذ البداية. فأهمّيّة العذراء المتضرّعة كانت كبيرة منذ البداية، تمامًا مثل نمط صاحبة الجلالة. وفي القسطنطينيّة، بُنيَت كنيسة باسم المتضرّعة خصّيصًا لاستقبال وشاح العذراء (أوموفوريون ) الّذي أُحضِرَ مع زنّارها من أورشليم في عهد الإمبراطور لاون التراقي (457-474). في هذه الكنيسة صُنِعَ نقش بارز من المرمر للعذراء المتضرّعة، ونبع ماء يسيل من ثقبين في راحتيها. لهذا نجد في بعض أيقونات العذراء ثقبين في اليدين. وبسبب الدور الهام الّذي قامت به أيقونة العذراء المتضرّعة في كنيسة القسطنطينيّة التي تحوي وشاح مريم، ارتبط الموضوعان ببعضهما بعضًا، وصار يصعب الفصل بينهما. ففي كثير من الأيقونات أو الرسوم الجداريّة، نرى العذراء المتضرّعة تحمل بين يديها وشاحها، أو تلبسه فينسدل فضفاضًا. ويُظهر الفنّ الغربيّ المتأثّر بالبيزنطيّ هذه العلاقة بوضوح. ففي كثير من الرّسومات، نجد العذراء تلبس الوشاح وتغطّي به جماعة من النّاس . وهو ما تنشده الّليتورجيا: "في ظلّ حمايتكِ نلتجئ إليكِ يا والدة الّله القدّيسة مريم، فلا تبخلي عن طلباتنا عند احتياجنا إليكِ، بل بما أنّكِ صالحة، بادري إلى معونتنا نحن الصارخين إليكِ بإيمان. هلمّي إلى الشفاعة وأسرعي إلى الابتهال، يا والدة الإله المحامية دائمًا عن مكرّميكِ". وقد استُعمِلَت هذه الرسوم كثيرًا لدرء خطر وباء الطاعون. لهذا أخذ نمط المتضرّعة في بعض الأيقونات أسماء أخرى نحو: المنقذة، الحامية.
منذ ظهور موضوع الصعود في الأيقونات البيزنطيّة، نجد مريم في وسط الرسم بوضعيّة المتضرّعة، رافعة يديها نحو ابنها الصاعد في هالة إلى السماء، بينما التلاميذ ينظرون إليه قلقين. فقد أراد الفنّانون أن يبيّنوا من هذه الوضعيّة دور العذراء في الشفاعة. هذا ما ترتّله الّليتورجيا البيزنطيّة: "يا نصيرة المسيحيّين الّتي لا تخزى ... هلمّي إلى الشفاعة وأسرعي إلى الابتهال، يا والدة الإله المحامية دائمًا عن مكرّميكِ". وتدلّ التنقيبات الأثريّة على أن نمط أيقونة المتضرّعة ظهر أوّلاً في فلسطين، وانتشر بسرعة في جميع البلاد المسيحيّة. وهو أكثر الأنماط استعمالاً في النقوش البارزة الحجريّة، فنجده على العملات البيزنطيّة وعلى الأختام الإمبراطوريّة.
عجائب أيقونة المتضرّعة
من الصعب إحصاء المعجزات الّتي تمّت بواسطة العذراء المتضرّعة. ففي أثناء حصار الفرس للقسطنطينيّة (626)، حمل البطريرك المسكونيّ سرجيوس أيقونة المتضرّعة في السابع من شهر آب، الموعد الّذي حدّده الفرس للهجوم، واجتمع حوله الشعب والجيش كلّه على أسوار المدينة، وأحيوا الّليل بالصلاة وقوفًا، ورنّموا أناشيد رومانوس الشاعر الّتي نظمها في مدح العذراء. عندما سمع الأعداء أصوات جمهور المدينة يردّدون "إفرحي يا عروسة لا عروس لها"، ظنّوا أنّ المحاصَرين سيشنّون هجومًا مباغتًا، فبدأت صفوفهم تتقدّم نحو المدينة. وإذا بسيّدة عظيمة جميلة تظهر في السماء وترفع يديها، كما هي في الأيقونة، وتدفع المهاجمين نحو الوراء. فسادت البلبلة في صفوفهم وانهزموا.
منذ ذلك الحين، تحتفل الكنيسة البيزنطيّة بعيد الأكاثستوس، أي عدم الجلوس، في رتبة المدائح، تذكارًا لتلك المعجزة. وترتّل الّليتورجيا نشيدًا كُتِبَ لهذه المناسبة: "إنّي أنا مدينتكِ يا والدة الإله، نكتب لكِ آيات الغلبة يا قائدة قاهرة، ونقدّم الشكر لكِ، وقد أنقِذنا من الشدائد. لكن بما أنّ لكِ العزّة الّتي لا تُحارب، أعتقينا من أصناف المخاطر، لكي نصرخ إليكِ: إفرحي يا عروسة لا عروس لها". وتكرّر هذا النوع من المعجزات، أي صدّ الأعداء عن المدينة، عدّة مرّات.
---------------------------------
سيدة الذخيرة أو سيدة الزنّار
تسمّى هذه الأيقونة أيضًا خلقوبراتيا أي ساحة النحاس، نسبة إلى مكان الكنيسة الّتي وضِعَت فيها. يخبرنا التقليد أنّ في عهد الإمبراطور أركاديوس (395-408)، تمّ أُرسال وشاح العذراء وأيقونتها وزنّارها من أورشليم إلى القسطنطينيّة. وبُني للزنّار معبد صغير على بعد مئة متر من كنيسة الحكمة المقدّسة (آجيا صوفيا) في ساحة داخل سوق النحّاسين اسمها ساحة النحاس. وحُفِظَ الزنّار في ذخيرة ووضِعَ تحت الهيكل. وقدّمت القدّيسة بلخاريا لهذا المعبد أيقونة للعذراء عجائبيّة، فصار الناس يأتون لتكريم الذخيرة والأيقونة. وعُرِفَت هذه الأيقونة باسم سيدة الذخيرة أو أيقونة أمّ الزنّار. كانت الأيقونة والذخيرة مصدر نِعَمٍ وبركات لكثير من الناس. وأنشد القدّيس جرمانس للزنّار وقال: "أيّها الزنّار المكرّم، أنت تحيط بمدينتك، فتمنع البربر الّذين يحومون دائمًا حولها عن اقتحام أبوابها".
تُصوَّر عذراء هذه الأيقونة طوليًّا في غالب الأحيان، وهي تدور إلى اليسار وتلتفت نحو المشاهد ثلاثة أرباع التفاتة. ظهرها محنيّ بعض الشيئ وكأنّها تحمل ثقل عالم الآلام والخطيئة. تمدّ يدها اليمنى نحو الأمام مشيرة، وترفع اليسرى متضرّعة تتشفّع لمن وضعوا فيها رجاءهم. وتبدو فكرة الشفاعة بوضوح أكثر حين تحمل العذراء في يدها اليسرى رِقًّا مفتوحًا. ففي كنيسة سبوليتو الإيطاليّة، نجد على الرِّق حوارًا مع ابنها:
- لمَ تطلبين يا أمّي خلاص الفانين؟ لقد أغضبوني.
- ارحمهم يا بُنَي، لا تصرف وجهك عنهم، بل احفظهم بنعمتك.
- ليكن السلام لمن يتوبون بدافع المحبّة.
يرتبط المعنى الّلاهوتي لهذا النمط من الأيقونات ارتباطًا وثيقًا بنمط العذراء المتضرّعة. وهو مستوحى بدون شكّ من العذراء في أيقونة الصلاة ففي هذا النموذج، نجد المسيح الضابط الكل يملك على عرش، ويقف على يساره يوحنّا المعمدان يشير إليه: "هذا الّذي قلتُ فيه: يأتي بعدي رجلٌ قد تقدَّمَني لأنّه كان قبلي" (يوحنّا 1: 30)، وعلى يمينه العذراء تتشفّع منحنية بعض الشيء بتواضع. فالتفاتة العذراء نحو اليسار وانحناءتها ووضعيّة يديها تتطابق تمامًا مع سيّدة الذخيرة.
زاد الرسّامون مع مرور الزمن عناصر أخرى على الأيقونة. فأضافوا المسيح يبارك أمّه من الزاوية اليمينيّة العليا للأيقونة، والرِقّ المفتوح، ثمّ شخصيّات جاثية أو ساجدة أمام العذراء، أباطرة وأساقفة، تنحني أمامها وتطلب شفاعتها. كما صوّر بعض الأباطرة أمثال تيودورُس وعمّانوئيل كمنينس سيّدة الذخيرة على عملاتهم. أمّا الأيقونة الأصليّة فقد تلَفَتْ مع المصائب الّتي حلّت بالقسطنطينيّة، ودمّر الأتراك الكنيسة حين دخلوا المدينة في منتصف القرن الخامس عشر، ولم يبقَ منها إلاّ أنقاض يقوم عليها جامع صغير اسمه جامع زينب سلطان في شارع آلندار.
وشاح العذراء العجائبيّ
تحدّثنا منذ قليل عن وشاح العذراء وصلته الوثيقة بأيقونة المتضرّعة، وقلنا إنّه نُقِلَ من فلسطين إلى القسطنطينيّة في عهد الإمبراطور لاون التراقي. كان الوشاح يحمي المدينة من هجمات الأعداء ويدرأ عنها الأوبئة والكوارث الطبيعيّة. والطروباريّات تذكّر المؤمنين بهذا في عيد وضع ثوب العذراء في فلاخرني يوم 2 تمّوز: "بوشاحك أيّتها النقيّة تغطّي السموات المتوشّحة بالغيوم. فنحن بإكرامنا له بإيمان نعظّمكِ يا ملجأ نفوسنا". ويمكننا قول الشيء نفسه في زنّار العذراء الّذي كرّمه البيزنطيّون، وكان لهم مصدر نِعَمٍ وبركات.
نقرأ في سيرة إندراوس المجنون (القرن العاشر)، الّذي بالغ في ممارسة التقشّف والورع وطيبة القلب فوصِفَ بالجنون، أنّه رأى وتلميذه العذراءَ يحيط بها يوحنّا المعمدان ويوحنّا الإنجيليّ، تسير في موكب مهيب. وحين اقتربت منهما، جثت وصلّت، والدموع تسيل على وجهها الطاهر النقيّ. ثمّ أمسكت بوشاحها وغطّت به الشعب الواقف تحتها فانبثقت منه أشعّة غمرت جميع الحضور.
وبعد قرن من الزمن، أي في السنة 1061، اكتُشِفَت أيقونة للمتضرّعة كانت مغطّاة بالكلس لحمايتها من عبث محطّميّ الأيقونات. وفي مساء كلّ يوم جمعة، كان الحجاب الحريريّ النفيس الّذي يغطّيها يرتفع وحده، ولا يسقط ثانية إلاّ عند صلاة الساعة التاسعة يوم السبت. وكلّما ارتفع، تبدو أمّ الّله المتضرّعة المرسومة في الأيقونة بهيّة يغمرها نور يفوق الوصف.
إنّ موضوع وشاح العذراء أو زنّارها له أهمّيّته في الكنيسة البيزنطيّة. فكلّ مدينة تفخر بحيازتها على ذخيرة كهذه، وتحافظ عليها محافظة شديدة. وفي بعض الأيقونات، نجد موضوع الوشاح مرتبطًا بالزنّار، فتبدو العذراء في وضعيّة المتضرّعة، ويظهر زنّارها واضحًا وقد علّقت عليه منديلاً صغيرًا. وخير مثال على هذا النوع من الرسومات الفسيفساء في قبّة كنيسة الحكمة المقدّسة في كييف (روسيا). ويُطلق عليها عادة اسم "الجدار الّذي لا يخرب".
المتضرّعة والطفل
اعتمد الفنّانون على نمط مريم المتضرّعة وأبدعوا تصويرًا جديدًا للعذراء والطفل، تعورف على تسميته: "عذراء العلامة" وهو يمثّل مريم في وضعيّة المتضرّعة، والطفل الإلهيّ أمام أحشائها قائمًا بقدرته الذاتيّة، تحيطه هالة من النور.. وهكذا، يرى المشاهد بوضوح موضوع شفاعة مريم، ألا وهو ابنها يسوع المسيح. وتعتمد هذه الأيقونة على نبوءة أشعيا: "فلذلك يؤتيكم السيّد نفسه علامة: ها إنّ العذراء تحبل فتلد ابنًا وتدعو اسمه عمّانوئيل" (7: 14). أمّا الّليتورجيا، فترنّم لهذه الأيقونة: "يامن هي أعظم من الشاروبيم والسيرافيم، وأرحب من السماء والأرض. لقد فقتِ بلا قياس جميع الخلائق المرئيّة وغير المرئيّة، فاستقبلتِ في أحشائكِ أيّتها الطاهرة، الّذي لايمكن لأرجاء السموات أن تحتويه". فالأيقونة تعبّر عمّا أنشده القدّيس باسيليوس الكبير حين نعت العذراء بـ "أرحب من السموات".
لاقى هذا النمط من أيقونات العذراء انتشارًا واسعًا، حتّى إنّنا نجده منقوشًا على بعض العملات الإمبراطوريّة. فبحماية العذراء يتثبّت الملوك في سلطانهم. وعلى سبيل المثال، سكّ قسطنطين التاسع نقودًا نُقِشت عليها صورة كاملة للعذراء المتضرّعة أو نصفيّة، وحملت بعضها اسم البتول المتعهّدة.
تختلف وضعيّة الطفل في هذا النوع من الأيقونات من رسم إلى آخر. وكما في الأيقونات السابقة، فهو يأخذ وضعيّة الرصانة والرزانة، ويحمل لفافة ورق في يده اليسرى ويبارك في اليمنى. وهناك بعض الأيقونات الّتي ترسمه يبارك باليدين. ويُرسم الطفل عادة حتّى الصدر، تحيط به دائرة تجعله منفصلاً عن الرسم، وقد يحيط بالدائرة من تحت ملاكًا، فيأخذ الرسم معنى لاهوتيًّا. وتتوجّه نظرات مريم في أيقونات المتضرّعة نحو المشاهد، موضوع الشفاعة وغايتها. وتكون اليدان مرفوعتين في وضعيّة الصلاة الّتي كان القدماء يتّخذونها. وكما يقول بعض الآباء، بهذه الوضعيّة، لاتصلّي العذراء وحسب، بل تمدّ يديها الطاهرتين على العالم للدفاع عنّا.
الأمّ الحنون
الأصل والمنشأ
لم يظهر نمط الأمّ الحنون منذ القرون المسيحيّة الأولى كما هو الحال في الأيقونات السابقة، ولا يعتمد تصميم الرسم على أيّ جدال لاهوتيّ. فالأيقونة تظهر العلاقة العاطفيّة الحميمة الّتي تربط الأم بابنها. وقد لاقت هذه الأيقونة شعبيّة كبيرة في الشرق كما في الغرب.
ظهر نمط الأمّ الحنون أوّلاً في الإمبراطوريّة البيزنطيّة في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، ولا ندري أسباب هذا الظهور ولا دوافعه. ففي البداية، كانت تُرسم للأمّ الحنون صورة طوليّة تبدو فيها واقفة أو جالسة. وبعد ذلك، انتشرت الأيقونات النصفيّة، والأقلّ من النصفيّة. ففي بعضها لا يظهر من مريم والطفل إلاّ الرأسان، فيركّز المشاهد انتباهه على العاطفة الفيّاضة بين الاثنين، بدل أن يتأمّل ما تشير إليه اليدان. ويمكننا الاعتقاد بأنّ موضوع الأمّ الحنون ظهر في عصر كان المسيحيّون يبحثون فيه عن رحمة الّله وحبّه أوّلاً. بهذا نستطيع أن نفهم سرّ سعة انتشارها.
اعتمد الرسّامون في تصميمهم لنمط الأمّ الحنون على الأسلوب القديم. ففي القرن الرابع، نجد نقوشًا للإمبراطورة فوستا تحمل طفلين وتعانقهما بهذه الطريقة. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه في بعض النقوش على القبور الحجريّة من ذلك العصر. فسهُلَ على هذه المشاهد الطبيعيّة أن تطبّق في الأيقونات على العذراء والطفل. لكنّ هذا التطبيق تمّ ببطء وصمت، ولم تُنسب إلى هذا النمط أحداث معجزيّة كما هو حال أيقونات الدليلة والمتضرّعة. لكنّ المؤرّخين الروس يذكرون أنّ أيقونة فلاديمير الّتي تنتمي إلى هذا النمط لم تكفّ عن القيام بمعجزات منذ صنعها في القرن الثالث عشر. فكم مرّة ردّت هجمات الأعداء عن المدينة، وكم مرّة أنقذت البلد من الأوبئة. لهذا خصّها الروس بإكرام فائق، فكانت الاحتفالات الدّينيّة تقام أمامها، وتنصيب القياصرة وزواجهم وعماد أولادهم يتمّ في رعايتها.
حنان وحزن
على الرغم من المشاعر الإنسانيّة الّتي يعبّر عنها نمط أيقونات الأمومة، لا يمكننا تجاهل علامات الحزن البادية على وجه العذراء وتعابير الخوف في وجه الطفل. وإذا نظرنا إلى أيقونات دفن المسيح، نجد العذراء تعانق ابنها الميّت بالطريقة نفسها. فالآلام هي الطابع السائد للحنان. لذلك يمكننا افتراض وجود علاقة بين نمط الأمّ الحنون وأيقونات الألم. وتظهر هذه العلاقة في نبوءة سمعان: "وأنتِ سينفذ سيف في نفسكِ لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة" (لوقا 2: 35).
يعتمد افتراض العلاقة بين الحنان والحزن في أيقونات هذا النمط على أسس راسخة. ففي الطرف الآخر من أيقونة الأمّ الحنون المعروفة باسم فلاديمير، الّتي يُنسب تصويرها إلى أندريه روبليف، نجد رسمًا يرمز إلى صلب المسيح. هيكل أحمر وضِعَ عليه كتاب مغلق وقفت فوقه حمامة هي رمز للروح القدس. على يمين الكتاب إكليل شوك وعلى يساره أربعة مسامير. وينتصب خلف الهيكل صليب فارغ، وضِعَت حربة على يساره وعصا تعلوها إسفنجة على يمينه. وكُتِبَت حوله عبارة: IC XC - NI KA الّتي نجدها عادة على قربانة الإفخارستيّا ومعناها: "يسوع المسيح المنتصر".
تظهر أيضًا العلاقة بين الحنان والآلام في أيقونة واسعة الشهرة بشرقنا، وهي أيقونة المعونة الدائمة. فنمط هذه الأيقونة هو نمط الأمّ الحنون. يبدو فيها الطفل يسوع في حالة ذعر، فنرى صندله في صدد السقوط، وهو ينظر إلى الوراء نحو الأعلى خائفًا. ومن فوق، يطير ملاكان، واحد على يمين المشاهد يحمل صليبًا وآخر على اليسار يمسك بحربة وبعصا تعلوها إسفنجة. إنّ هذه الأيقونة إثبات واضح للعلاقة بين الأمّ الحنون والآلام. وقد غالى بعضهم في شرحها وقالوا إنّ المسيح، بما أنّه إله، كان يعرف منذ طفولته بأيّة ميتة بشعة سيموت. وقد مثّل الرسّام هذه المعرفة بالملاكين. ولمّا كان طفلاً، كان يرتعد لفكرة آلامه المقبلة فيلجأ إلى أمّه ويجد في حضنها ما ينشده من طمأنينة وأمان. في هذا الشرح العاطفيّ الجميل مبالغة لاتتوافق مع الإيمان بالتجسّد الحقيقيّ للكلمة. وكأنّ يسوع لم يعش كسائر الأطفال، ولم يعانِ في كلّ يوم صراعًا مع المجهول مثل أيّ شخص. فتبدو عمليّة الصلب مبرمجة مسبقًا، وتزول مسؤوليّة البشر فيها، وبالتالي تكون حياتنا سلسلة أقدار محتومة لاحول لنا فيها ولاقوّة.
لقد كتب كثيرون في القرون الأولى أناجيل غالت في تعظيم طفولة يسوع على هذا النحو، ونسبت إليه أعمالاً معجزيّة منذ حداثة سنّه، لكنّ الكنيسة رفضت هذه الكتب واعتبرتها منحولة. لهذا لا نقبل الشرح الوارد أعلاه ونعتقد أنّ أيقونة المعونة الدّائمة تبيّن على طريقتها صلة الحنان بالألم في نمط الأمّ الحنون. لعلّ شرح الأرشمندريت أنطون هبّي لهذه الأيقونة هو أدقّ ما قرأناه إلى الآن وأفضله. فهو يشير إلى أنّ الفنّان "رغب أن يجمع فيها (الأيقونة) عظائم أسرار ابن الّله لنشل البشريّة الخاطئة من وهدة الفساد والهلاك، فرسم المخلّص محمولاً على ذراع أمّه البتول الأيسر ... ومثّل في أعلى الصورة عن يمين رأس العذراء ويساره ملاكين يحملان آلات الصلب والآلام، دلالة على افتدائه جنس الآنام ... وبدلاً من أن يرنو يسوع إلى أمّه، قد نظر إلى الصليب وهاله مشهد الآلام المبرحة، فشدّ بكلتا يديه على يد أمّه اليمنى، ولفرط ذعره وارتجافه سقط حذاؤه من رجله اليسرى ... وبدا الحزن العميق على محيّا البتول لفرط حزن ابنها الإلهيّ، فهي شريكة المخلّص الحبيب في أفراحه وأتراحه ".
الصفات المميّزة
تصوّر أيقونة الأمّ الحنون امرأة تحمل ابنها غالبًا على ذراعها اليسرى وتضمّه بحنان إلى صدرها. تحني رأسها بعض الشيء وتلامس خدّه بخدّها. أمّا هو، فيعانقها بحرارة وحبّ، وينظر إليها بشغف. تحيط يده بعنقها وتتمسّك يده الأخرى بثوبها. ولا يعبّر وجه العذراء الناعم النبيل عن أيّ فرح، بل إنّها تنظر بعينين حزينتين إلى المشاهد أو إلى ابنها. إنّ هذه النظرة تختلف عن نظرات أمّ فخورة بابنها الفريد. فهي تقودنا إلى سرّ حياة أمضت عمرها في تأمّلها. إنّها نظرة إيمان. فالعذراء حملت الّله في قلبها قبل أن تحمله في أحشائها.
ترتفع يد العذراء اليمنى بلطف وكأنّها تريد سند ابنها خشية أن يسقط. وفي الآن نفسه تدعونا بهذه الحركة إلى مشاهدة ولدها إله الرأفة والحنان. ويلبس الطفل في غالب الأيقونات ثوبًا ذهبيًّا مضيئًا. فهو "نور من نور، إله حق من إله حق". أمّا عيناه، فلا يرتسم عليهما الحزن بل الخوف والقلق. إنّها العلاقة الإنسانيّة في أسمى معانيها. الطفل يلجأ إلى أمّه قلقًا، والأم تعطف على صبيّها، تحزن لقلقه وتمنحه الطمأنينة والهدوء.
الطفولة البشريّة للكلمة
نجمع في هذا النمط ما تعوّد النقّاد الفنّيّون أن يقسموه إلى اثنين. نمط الأمّ المرضعة ونمط الطفل الّلعوب. ففي كلا النمطين، يظهر الفنّان طفولة يسوع الّتي لا تختلف البتّة عن طفولة أيّ كائن بشريّ، ليبيّن أنّ التجسّد كان حقيقيًّا، وأنّ يسوع اختبر في نعومة أظافره ما اختبرناه نحن جميعًا في طفولتنا.
يقول إفدوكيموف في كتابه فنّ الأيقونة، إنّ الفنّ البيزنطيّ يتحاشى إظهار البعد البشريّ للكلمة المتجسّد لتتمكّن هويّته الإلهيّة من الظهور. لكنّا نظنّ أنّ هذا الكلام مبالغ فيه. فالكاتب ينقض في قوله هذا بعض اللوحات الفنّيّة الغربيّة الّتي تصوّر الطفل يسوع عاريًا، أو لاتعبّر من تصويرها له عن أيّ معنى لاهوتيّ أو روحانيّ. وقد خفي على كاتبنا أنّ الإقلال من شأن الطبيعة البشريّة ليسوع المسيح هرطقة أدانتها المجامع المسكونيّة، وأنّ الأيقونات الّتي سنأتي على ذكرها لازالت تنال إكرام الكنائس الأرثوذكسيّة.
المرضعة
ظنّ النقّاد الفنّيّون ولفترة طويلة أنّ نمط أيقونة العذراء المرضعة لاتينيّ. وقد اعتمدوا في هذا الظنّ على انتشار النمط في الفنّ الغربيّ عمومًا والإيطاليّ خصوصًا. لكنّ التنقيبات الأثريّة المعاصرة بدأت تميل إلى الاعتقاد بأنّ النمط من أصل مصريّ. فعبادة الإلهة إيزيس كانت شعبيّة في مصر القديمة، وكثير من التماثيل والنقوش البارزة تصوّرها وهي ترضع ابنها حورُس الّذي يجلس بوقار في حضنها. وفي المنمنمات القبطيّة، نجد مريم ترضّع ابنها وهو مستلقٍ ويمسك بثديها على عادة الأطفال الرضّع.
لم يلقَ هذا النمط رواجًا في بيزنطية حيث تميّز الفنّ بالصرامة والجدّيّة. ومع ذلك، يذكر البابا غريغوريوس في رسالة بعثها إلى الإمبراطور لاونديوس الإيزوريّ (717-741) أنّ بين الأيقونات الواجب إكرامها: "تصاوير القدّيسة مريم الّتي تحمل في يديها سيّدنا وإلهنا وتغذّيه من حليبها". ولم يقتصر موضوع الرضاعة على يسوع، بل نجد رسومًا تبيّن أيضًا رضاعة العذراء في طفولتها ورضاعة يوحنّا المعمدان.
لهذا النمط معانٍ لاهوتيّة يمكن استنتاجها من إحدى أيقونات المرضعة. فقد كُتِبَ تحتها " المائدة". وتظهر الأمّ المرضعة وهي تنظر إلى ابنها بحنان، وتقدّم له ثديها لتعزّيه، فالطفل الإلهيّ يبكي مثل سائر الأطفال، ويعاني مثلهم من آلام الطبيعة، الجوع والعطش والخوف والوحدة. ولكي يزيل الفنّان عن هذا النمط كلّ تعبير ماديّ بشريّ، وضع الثدي على مستوى الكتف. وينظر الرضيع إلى المشاهد دون أن يصبّ اهتمامه كلّه في الغذاء، وكأنّه يقول: "طعامي أن أعمل بمشيئة الّذي أرسلني وأن أتمّ عمله" (يوحنّا 4: 34).
الطفل اللعوب
تختلف هذه الأيقونة اختلافًا كبيرًا عن أنماط أيقونات العذراء والطفل في الفنّ البيزنطيّ. فبدل أن نجد فيها طفلاً جادًّا رزينًا كما هو الحال في جميع الأنماط، تصوّر لنا طفلاً لعوبًا حيويّ الحركة. ويشبه هذا النمط أيقونات الأمّ الحنون من حيث التقاء الخدود ووضعيّة يديّ العذراء. لكنّه ليس قديمًا مثلها، بل يعود تاريخ ظهوره إلى القرن الثالث عشر، حين بدأ الفنّ البيزنطيّ يتخلّى عن الضخامة والجدّيّة ويميل إلى تصويرٍ أكثر واقعيّة. في هذا القرن، بدأ جسد المسيح المصلوب ينزلق نحو الأسفل أكثر وأكثر ويحني ظهره ويغلق عينيه. أمّا العذراء الواقفة بجانبه فصارت تُرسم واقعة على الأرض فاقدة الوعي من فرط الألم، والملائكة حول الصليب يبكون. لهذا يبدو وجه يسوع، على الرغم من وضعيّته الّلعوبة، جادًّا وفيه خوف. ربّما كان هذا من تأثير نمط الأمّ الحنون.
يمكننا أن نلحظ في غالبيّة الأيقونات من هذا النمط أنّ الطفل يريد الفلات من أمّه، والأمّ لا ترتبك ولا تسعى إلى إجباره على البقاء. كلّ ما تفعله هو أنّها تستمرّ في وهبه حبّها وحنانها، ولا تكبّل حرّيته. هذا ما حدث في الإنجيل حين جاء مَن يقول ليسوع إنّ أمّك وإخوتك في الخارج ينتظرونك. "فأجاب الّذي قال له ذلك: "مَن أمّي ومَن إخوتي؟ ثمّ أشار بيده إلى تلاميذه وقال: "هؤلاء هم أمّي وإخوتي. لأنّ مَن يعمل بمشيئة أبي الّذي في السموات هو أخي وأختي وأمّي" (متّى 13: 16)". وهي تبدو في الأيقونة خاضعة تمامًا لمشيئته.
يمكن أن نضمّ إلى نمط الطفل الّلعوب أيقونة كونييف Koniev . تتميّز هذه الأيقونة في أنّ الطفل ينظر إلى طائر حمام يقف على يده اليسرى أو يمسك به، لأنّ جناحاه ممدودان. ولا يمكننا الجزم هل الطائر هو الروح القدس أم أنّه تصوير لعادة الأطفال في الّلعب مع العصافير، أو أنّه يعبّر عمّا ذكرته الأناجيل المنحولة عن يسوع. ففي هذه الأناجيل، يُقال إنّ يسوع كان يصنع طيورًا من طين وينفخ عليها فتدبّ فيها الحياة وتطير. يمكننا فهم معنى هذه الأيقونة بالاعتماد على إيمان الشعب الّذي يقتنيها. فقد تعوّد المسيحيّون الروس على الربط بينها وبين الرعاية الإلهيّة بناء على ما قاله يسوع: "أما يباع عصفوران بفلس؟ ومع ذلك لا يسقط واحد منهما إلى الأرض بغير علم أبيكم. أمّا أنتم، فشعر رؤوسكم نفسه معدود بأجمعه. لا تخافوا، أنتم أثمن من العصافير جميعًا" (متّى 10: 29). فالعصفور هنا ليس مجرّد تفاصيل عديمة الأهميّة، بل يشير إلى النفس المسيحيّة، ويسوع وأمّه ينظران إليها باهتمام ويرعيانها.