(كلمة المطران جورج خضر )
قاعة كلية الهندسة - الجامعة الأنطونية – 26 أيار 2012
__________________________________
هل تكتب في تكريم رجل التمس نعمة التواري الذي لم ترضَ به جامعتكم الكريمة؟ غير أن دفق صداقتكم وكليمات حب لكم هي دون زخم حبي لأنّ الكلام عندي مخاض عسير إذ لا أزال أؤثر عليه الصمت الأفصح هذا الذي لا تختلط حقيقته بعبارات اللسان.
أظن أن ما رجوته طوال حياتي هو الطراوة التي إذا منّ بها عليّ ربكم لا يراني حجرًا أصمّ. عندي مصحف واحد هو «لو حكيت مسرى الطفولة» ينتهي بكتابة صاحبي من بعيد ليقول وحدته وقرباه بآن. وفي متابعتي لسيرة صاحبي كما سميته استقر في القربى وبات في وحدة كأنها رهبانية وما ذاقه في عقود كان رجاء التحام بينهما ليغدو باكيا على قدمي المصلوب خاشيا الا تغطيه الرحمة العظمى عند تواريه الأخير.
حاولت أن اثبت في الاستغفار لئلا اطرح خارج الحنان الذي حاولت كثيرا أن استرده فعلمني الكثير. علّمني أولا وأخيرا أن الرتب ليست بشيء إذ قد تكون مليئة بالفراغ ولن تكسب إلا رؤيتك المسيح مرتسما على كل الوجوه الملتمعة منها والغبية لأن الذكاء لا ينقذ أحدا ويخلص المرء فقط إذا قرأناه بعين المحبة التي هي وحدها قراءة الله لخلقه.
الدنيا ارتطام أي نزف. يصيبك كل يوم إن لم تكن من هذا العالم الذي يهزأ من الأطفال وما كتب عليك أن تهتم لدمعك. يبقى جسدك مرميا هنا وهناك كما يريد الخطأة ومن يُدينون وتفرح أنت بالصدّيقين إن لقيتهم ولك أن ترتل وأنت جريح. الدم هو الراهن الساطع في دنياكم حتى تبلسم الملائكة جراحك فيما أنت تنتظر الفرح المسكوب عليك من فوق. هذا لا ينفي الطراوة ولكنها هذه المرّة تبدو عليك معجونة بالدم.
الوجع مرتبط بالحزن إلا إذا نادى الوجع اللطف الإلهي. كلّكم قرأ في سفر التكوين: «ندم الرب انه صنع الإنسان على الأرض» (6: 6). ليس من آية تضربني مثل هذه وأفهم من علماء الإحصاء أن ستين مليارا من المسيحيين ولدوا على هذه الأرض. ماذا عملوا؟ هل صعدوا مع المسيح إلى السماء. يعذبك هذا السؤال ولا يحلّه لك كاتب الرسالة إلى العبرانيين عندما يقول لربه: «ما الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده» (2: 6). هل يريحني الكاتب الرسول عندما يجيب توا عن السؤال بقوله: «بمجد وكرامة كلّلته» ولا يكتمل الجواب إلا بقوله: «ولكن الذي وضع قليلا عن الملائكة يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من اجل ألم الموت».
أوضح لي هذا الكلام أن واحدا ورث المجد والكرامة وأننا مدعوون إليهما إذا كنا به وله واليه. يبقى السؤال إن هؤلاء الستين مليار هاجسي كل يوم غير أن الأعلين منهم يعزوني كل يوم.
من هذا الألم رؤيتي للكنيسة في سقطاتنا حتى باتت تقصيراتنا جرحا للمسيح دائما وحزني الكبير أن أراها متحولة إلى تجمّع بشري فيه تفاهة كبيرة ولكن يلتمع فيها دائما ضياء القديسين فأبكي وأفرح معا وأحاول ألا أستريح.
هنا تأتي مسألة الفكر اللاهوتي الذي لم نعنَ به كثيرا في هذه البلاد ولا يفهم الكثيرون انه نهج في مناهج الحب. ماذا يدعوك إلى الكلام في الله سوى العشق لننال عقول الناس «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة، 138). أن تغوص على سمو الحب في الله هذا هو المسيحية كلها. وهذا يتعذر عليك ان لم يُدخلك الابن حلقة الثالوث ليحبك الآب بالكثافة نفسها التي يحب بها ابنه الوحيد وهذا قول آبائنا.
لن يكون عندنا نحن علماء في الله ما لم نكن إلهيين أي غير بادئين مع الزمان كما يقول أحد عظمائنا. وإذا تجددت أزلية الله في ميلاد مسيحه كما نرتل في كنيستي هكذا تتجدد فينا إذا ولدنا بالروح والنار. كل ما كان دون هذا لغو وفي أفضل احتمال تمتمات. قضيت خمسين سنة لأفهم هذا. لعلّه أمر له أيضا علاقة بالطراوة.
ما احتسب أني تعلّمته خلال نصف قرن أن انصباب الحضارة الغربية على العقل المحض ورقصتها في حضرته ثمرة فصلها بين اللاهوت والناسوت وتأسيسها للإنسانوية المنعزلة عما هو فوق من حيث أن كل بنائها يقوم على استقلالية العقل في شموله الوجود كله ورأت إلى القلب على انه انفعال او تحرّك عاطفي بحت. كل هذا قائم على أن العقل ثابت وواحد وانه لم يجرح بعد الخلق واته تاليا المكان الوحيد للمعرفة.
قبل ان تنشأ هذه الاشكالية عند ابن رشد وفي فلسفة القرون الوسطى الأوربية قال باسيليوس الكبير إن العقل وحده هو أداة المعرفة للطبيعة وعلومها وان الكشف الإلهي أداة معرفة الله. في هذه النظرة عندنا وسيلتان للمعرفة تلتقيان في الإنسان الواحد. ثم علّم رفقاؤه الآباء أن العقل ينزل إلى القلب فيقتبس الطراوة إذا سمحتم بتعبيري ثم يصعد إلى نفسه حرا من جموده مملوءًا حبا لتتم فيه استقامة الرأي ويبدو هكذا الإنسان واحدا حرا من محدوديّة العقل ومن انفعالية القلب.
هل تصل أوربا الشرقية إذا تحرّرت سياسيا وقويت اقتصاديا إلى أن تحول أوربا الغربية إليها في بشرة واحدة؟ هل يتحرّر الشرق الأدنى من خوف عقله وقلبه ليسهم في تجدّد الإنسانية وتبدو البشرية جمعاء قائمة في لطف الله ولا تخسر شيئا من العظمة التي حققتها حتى الآن في العلم والثقافة ولا سيما أن الله يريدنا حوله بكل طاقاتنا حتى لا ينفصم اللاهوت عن الناسوت ولا يختلطا. هذا ما لا يزال يشغلني حتى اليوم وأنا قائل للسيد المصلوب: «قم يا الله واحكم في الأرض».
هذه أشياء جاءت إلى كهولتي وبعضها صقل في شيخوختي. هل أضع كتابا يعنون لو حكيت مسرى حياتي. ليس مهما أن يكتب الإنسان عن نفسه كلّها. المهم أن يكتبنا الرب في سجل الحياة.