الصّليب لم يبدأ مع المسيحيّة. تاريخ الصّليب قديم ويرجع إلى ألوف السّنين. في العصور القديمة، كان الصّليب رمزاً دينيّاً لدى كثير من الشّعوب الهنديّة والصّينيّة. ولم يجهل قدماء المصريّين شكل الصّليب. فقد أظهر البحث الأثريّ أنّه كان في نظرهم شارة مقدّسة يرسمونه في معابدهم كرمز للحياة. وهناك شعوب قديمة غيرهم كانوا ينصبون في هياكلهم شجرة بشكل صليب، ينقشون على جذعها اسم إلههم الأكبر. وقد وجد الصّليب على قبور قديمة للأشوريّين والفرس كعلامة تبريك.
إلّا أنّ الحالة تبدّلت في أواخر عهد الأشوريّين فبدأوا يستعملون الصّليب كأداة للتّعذيب والموت. ثمّ انتقلت هذه العادة من الأشوريّبن إلى اليونانيّين الّذين شرعوا يستخدمونه لتنفيذ أحكامهم في المجرمين. ومن البديهيّ أنّ الرّومان قد قلّدوا أسلافهم في هذه العادة.
أمّا عند العبرانيّين، فإنّهم حين بدأوا يقرأون التّوراة وحتّى اليوم، كانوا ولا يزالون يعتبرونه آلة للعار، استناداً إلى ما جاء في سفر تثنية الاشتراع:"ملعون كلّ من علّق على خشبة" (21/23).
كان علامة للسّخرية والهزء، ولم يكن يعلَّق عليه سوى المجرمين واللّصوصن لذلك طلب اليهود من رؤسائهم أن يصلب المسيح احتقاراً له وازدراءاً وتحقيراً. (يوحنا19/15).
قَبِلَ المسيح خشبة العار هذه، وتحوّلت به ومعه إلى جسرٍ خلاصيّ يمتدّ بين السّماء والأرض. على خشبة العار عُلّق السّيّد وهو الّذي لم يعرف الخطيئة، بل قبل ذلك طوعاً ليصالح العالم مع الله. هناك عند الصّليب بلغت محبّة الله ذروتها. ألله يقدّم ذاته قرباناً ليفتدي البشريّة بيسوع المسيح. يقول بولس العظيم في رسالته إلى أهل رومة (5/12):"والخطيئة دخلت في العالم بإنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، وسرى الموت إلى جميع البشر لأنّهم كلّهم خطئوا"... وإذا كان الموت ساد البشر بخطيئة إنسان واحد، فبالأولى أن تفيض عليهم نعمة الله بإنسان واحد هو يسوع المسيح." إنّ المسيح حمل خطايا العالم وصلبها معه على الصّليب وأماتها، وبالتّالي خلقنا من جديد لنكون كاملين بلا عيب كما اختارنا قبل إنشاء العالم.
وبموت الخطيئة، مات الموت ولم يعد إلّا خطوة نحو حضن الآب السّماويّ، حيث "الحياة".
مع يسوع المسيح تحوّل الصّليب من خشبة عار وذلّ، إلى عرش ملوكيّ يتربّع عليه الحبّ. وعندما نتكلّم عن الحبّ، علينا أن ننسى كل ما نعرفه عن الحبّ الّذي نحياه في العالم. فما نعيشه في العالم هو وهم الحبّ، بمعنى أنّنا نحيا حبّاً أرضيّاً، زائلاً. ولا نحيا الحبّ الحقيقيّ إلّا بيسوع المسيح. ولا نحبّ حقيقة إلّا انطلاقاً منه. إنّ حبّ العالم مرتبط بالمصالح والاكتفاء الذّاتيّ، كما أنّه مرتبط بالذاكرة والزّمان والمكان. أمّا حبّ الله فهو للحبّ وفقط للحبّ. فالمسيح هو حبّ الله المتجسّد شخصاً. بيسوع المسيح رأينا الحبّ يتنقّل بيننا، ويعيش معنا، ويختبر إنسانيّتنا بكلّ ضعفاتها ما عدا الخطيئة وذلك لأنّ الحبّ لا يعرف الخطيئة. إنّ الخطيئة تدخل قلب الإنسان متى تحوّل عن حبّ الله الخالص، إلى حبّه الأرضيّ. الله يحبّ ليحبّ، أمّا نحن فنحبّ لأسباب أو أهداف. متى ارتبطنا بيسوع المسيح، سوف نحبّ لنحبّ، وعندها يموت كبرياؤنا وبالتّالي تموت الخطيئة.
الله خلّص العالم بالحبّ وليس بالمنطق. فالمنطق يفترض العدل، وعلى من خطئ أن يعاقب. أمّا الحبّ فيعاقِب بالحبّ، ويحمل الخاطئ وينتشله من موته ليرفعه إلى مستوى الحياة. وعقوبة الحبّ، لهي أشدّ وقعاً وتأثيراً من عقوبة العدالة المنطقيّة. كان كافياً أن ينظر السّيّد في عينيّ الزّانية ويقول لها:"اذهبي، ولا تخطئي بعد الآن، حتّى تتغيّر حياتها كلّها وتولد من جديد إلى حياة جديدة، طاهرة ونقيّة. وكان يكفي أن يتحنّن على الأبرص ويلمسه ليطرد عنه النّجاسة.
هو فعل الحبّ، هو القوّة الخالدة الّتي لا تموت. ومن يحتمل كلّ هذه الآلام والشّتائم والضّرب والإهانة من أجلنا، إلّا إذا كان يحبّنا بجنون. يسوع المسيح وحده يحبّ لأنّه لم ينظر إلى خطيئتنا بل إلى إنسانيّتنا. ومن ذا الّذي يحتمل غلاظة قلوبنا وقساوتها إلّا من يحبّنا بجنون.
إنّ فعل الحبّ تجلّى بقوّة على الصّليب. ولا يفهم سرّ هذه القوّة، قوّة الحبّ، إلّا من يقف أمام الصّليب صامتاً، مصغياً لما يقوله الصّليب. ولا يدرك معنى هذا الحبّ إلّا من فهم معنى الألم وميّزه عن الوجع. إنّ المسيح تألّم لأجلنا لأنّه أحبّنا حتّى الموت، موت الصّليب. والفرق بين الألم والوجع شاسع، فالوجع يزول مع الوقت والوسائل الطّبّيّة كفيلة بذلك، خاصة في أيّامنا هذه. أمّا الألم، فهو ذاك الشّوق المستمرّ إلى الحبيب، حتّى الذّوبان فيه والاتّحاد به وملء كيانه حبّاً. هذا ما فعله المسيح على الصّليب. فعن أيّ منطق نسأل بعدُ؟؟؟
"إنّ اليهود يطلبون آية، واليونانيّين يطلبون حكمة، أمّا نحن فننادي بالمسيح مصلوباً شكّاً لليهود وجهالة لليونانيّين" (كورنتس الأولى 1/22). وما أكثرهم اليوم من يطلبون آية أو حكمة. من يريدون أن يلمسوا بحواسهم الحبّ، ومن يريدون أن يفهموا بعقولهم المحدودة سرّ الحبّ. وكلّما تساءلوا، كلّما غلظت قلوبهم عن الفهم. فكيف نفهم الحبّ بعقولنا فقط؟؟ وهل من محسوس يشرح اللّامحسوس؟ فمن يستطيع أن يشرح بعقله حبّ الأمّ، وتفاني الأب؟ ومن ذا الّذي يقوى على شرح الحبّ بمعادلات منطقيّة؟. الحبّ لا يُشرح، بل يُعاش ويُختبر. يثعاش بالعطاء حتّى يوجعه العطاء، ويُختبر بالألم حتّى الموت.
مساكين من نظروا وينظرون إلى يسوع على أنّه ضعيف ، ولا حول له ولا قوّة، فلقد غلبه اليهود والوثنيّون. هم مساكين لأنّهم رأوا في الصّليب منطق الهزيمة وأرادوا قوّة العضلات. والقوّة، كلّ القوّة تكمن في الحبّ، لأنّه لا يزول ولا يموت. ومساكين هم من رأوا ويرون في الصّليب مجرّد خشبة، وذلك لأنّهم يريدون قوّة السّيف الذّي يُهلك . أمّا نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً على صليب الحبّ، ونجاهد بصليب الحبّ وإن ذُبحنا عليه فعسى أن يكون مصيرنا كمصير سيّدنا وربّنا يسوع المسيح. وحاشا لنا أن نفتخر إلّا بهذا الصّليب، وحاشا لنا أن نفهم الصّليب فهماً أرضيّاً. نفتخر بالصّليب، لأنّه رفعنا إلى مستوى إنسانيّتنا الّتي هي على صورة الله ومثاله. ولا نقبل إلّا بهذه الصّورة، ولا نفتخر إلّا بها.
إن كان الصّليب حماقة عند النّاس فهو حكمة الله وقوته، حكمة الحبّ وقوّته. والمسيح هو حبّ الله وحكمته. فأيّ علّامة أو حكيم أو فيلسوف سيتفوّق على حكمة الله؟! فما يبدو حماقة للعالم هو حكمة عند الله وما يبدو ضعفاً للعالم هو قوّة عند الله. وهل سينحدر الله إلى مستوى عقلنا الأرضي ويستخدم قوّة زائلة؟ حاشا !!
دعوا الصّليب يتكلّم وينطق كلّ الحبّ ، واصغوا جيّداً وارتقوا إلى الحبّ الإلهيّ ، حبّ يسوع المسيح له كلّ المجد. ولتكن هذه الخشبة سلاح الحبّ العظيم، به نحارب كلّ شيء وبه نغلب كلّ شيء. هذه الخشبة الّتي علّق عليها سيّدنا هي للمجد وليست للهلاك. ورحم الله أمير الشّعراء أحمد شوقي وهو القائل:
"يا فاتح القدس خلِّ السّيف ناحيةً
ليس الصّليب حديداً كان بل خشبا"