فلما علم يسوع انصرف من هناك. وتبعه جمهور كبـير، فشفى جميع مرضاهم
وأمرهم أن لا يخبروا أحدا عنه،
ليتم ما قال النبـي إشعيا:
((ها هو فتاي الذي اخترته، حبـيبـي الذي به رضيت. سأفيض روحي عليه،فيعلن للشعوب إرادتي.
لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحد صوته.
قصبة مرضوضة لا يكسر،وشعلة ذابلة لا يطفئ. يثابر حتى تنتصر إرادتي،
وعلى اسمه رجاء الشعوب)).
(لوقا 11/9.)
~~~~~~~~~~~~~~
تآمر الفرّيسيّون على يسوع لأنّه خالف شريعة موسى ، وشفى يوم السّبت . ولمّا شعر يسوع أنّهم يتآمرون عليه ، انتقل إلى مكان آخر ، هو الّذي قال لنا : " كونوا حكماء كالحيّات ، وودعاء كالحملان ، ها أنا مرسلكم كالخراف بين الذّئاب " . وانتقل يسوع إلى مكان آخر دون أن يترك الرّسالة ، ولكنّه حملها إلى مكان آخر وتبعته جموع كثيرة . فالنّاس متعطّشة إلى الحقيقة وكلمة الحياة .
طلب يسوع منهم بألّا يخبروا أحداً أنّه شفى مرضاهم ، فيسوع يعرف النّاس ولا يريد ان يخلق حساسيّات ولا تحدّيات . ونفهم من هنا أنّ الرّسالة تطلّب منّا الصّبر وطول الأناة لنصل إلى غايتنا المرجوّة .
متّى الإنجيليّ علّل تصرّف يسوع ليتمّ ما قاله آشعيا النّبيّ . وهذه النّبوءة تتحدّث عن يسوع المختار من الآب وملأه من الرّوح القدس وأرسله فداء عن العالم . " ها هو فتاي الذي اخترته، حبـيبـي الذي به رضيت. سأفيض روحي عليه،فيعلن للشعوب إرادتي.
لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحد صوته. قصبة مرضوضة لا يكسر،وشعلة ذابلة لا يطفئ. يثابر حتى تنتصر إرادتي، وعلى اسمه رجاء الشعوب".
لفظة " فتاي " ، سمعها النّاس يوم اعتماد يسوع في نهر الأردن ، وسمعها التّلاميذ يوم التّجلّي على جبل طابور. " هذا فتاي " ، " إبني الحبيب " الّذي به سررت . الإبن الحبيب الّذي حلّ فيه ملء اللّاهوت ، والّذي يريد منّا الآب أن نسمع له . أن نتّحد به كلّ الاتّحاد لنصل إلى ملء الحبّ الإلهيّ .
ونجد عند النّبي آشعيا ، أربعة أناشيد، "أناشيد عبد الرّبّ"، وهي نبوءة عن يسوع المسيح ونبوءة عن الكنيسة ، شعب الله . كلمة " عبد " في الكتاب المقدّس من عَبَدَ ، العابد ، العبادة(Serviteur , Culteur) أي الإنسان الّي يعيش مع الله ، بعادة كاملة ، علاقة متينة وحميمة مع الله ولذلك يسبحّه ، ويمجّده ويستنير به .
-ألنّشيد الأوّل : " ها عبدي الذي أسانده، والذي اخترته ورضيت به! جعلت روحي عليه، فيأتي للأمم بالعدل. لا يصيح ولا يرفع صوته، ولا يسمع في الشارع صراخه. قصبة مرضوضة لا يكسر وشعلة خامدة لا يطفئ. بأمانة يقضي بالعدل. لا يلوي ولا ينكسر حتى يقيم العدل في الأرض، فشريعته رجاء الشعوب. "(أش42/1.4)
من هو هذا عبد الله ؟ هو نبيّ ، معلّم ، مملوء صبر وحنان نحو الضّعفاء وممتلئ من روح الرّبّ . يعلّم الحقّ ، مسالم ، متواضع ، يأبى الظّلم ، يسلك في الحقّ دون محاباة للوجوه . تضع اللأمم والشّعوب فيه ثقتها ورجاءها وتتّكل عليه .
هذا هو المسيح ، وقيمتنا أنّنا شركاء في رسالته . وتكمن في اتّحادنا به جسديّاً وروحيّاً، فنصبح شركاء في مخطّط الله الخلاصيّ .
-ألنّشيد الثّاني : الرب دعاني من رحم أمي، ومن أحشائها ذكر اسمي. فمي جعله كسيف قاطع. وفي ظل يده خبأني. جعلني سهما مصقولا، وفي جعبته أخفاني. قال لي: ((أنت عبدي، يا إسرائيل وبك أتمجد)). فقلت: ((أنا باطلا تعبت، وعبثا أتلفت قوتي. ولكن عند الرب حقي، وعند إلهي جزائي)). فقال الرب الذي جبلني من الرحم عبدا له لأرد يعقوب إليه وأجمع شعبه إسرائيل، فأكرم في عيني الرب ويكون إلهي عزتي: ((قليل أن تكون لي عبدا لتثير همة أسباط يعقوب وترد الباقين من بني إسرائيل،ولتكون نورا للأمم وخلاصا إلى أقاصي الأرض)).(أش49/1.2)
ألله ، الحبّ ، مرتبط بنا عضويّاً . نحن نشهد له وهو هنا ، يعمل بنا ومعنا . هذه هي القيمة الإنسانية للإنسان ، أنّه شريك لله ، وإبن له . وبنوّتنا له تفترض علاقة متينة ، وثقة مطلقة بمن لا يريد إلّا خيرنا ، ولو كان ،أحياناً ، لا يتوافق ما نعتقده خيرنا مع حكمة الله. قيمة الإنسان ، أنّه يحيا " الحياة " بشراكة مع المتسامي والقدير .
كتاب آشعيا ، ظهر قبل الإنجيل ، ولربّما هو إنجيل حقيقيّ (خبر مفرح ) ولا أعني كتاباً نرتبط بحروفه ، وإنّما كلمة الله المفرحة للعالم أجمع .
-ألنّشيد الثّالث : الرب أعطاني لسان التلاميذ لأعين المتعبين بكلمة. صباحا فصباحا ينبه أذني لأصغي إصغاء التلاميذ. السيد الرب يفتح أذني فلا أتمرد وأرتد عنه. أدير ظهري للضاربين وخدي لناتفي اللحى. وأحتمل التعيير والبصق. الرب يعينني فلا أخجل. بل أجعل كالصوان وجهي. قربت براءتي. ومن يخاصمني. فليتقدم لنقف أمام القضاء. السيد الرب يعينني. فمن يا ترى يحكم علي؟ هم جميعا كثوب يبلون ويكونون طعاما للعث. من منكم يخاف الرب يسمع لصوت عبده. يسلك في الظلام ولا ضوء له ويتكل على اسم الرب إلهه. يا جميع موقدي النار. الدائرين حول شرارها. ستدخلون في لهيب ناركم. وفي الشرر الذي أضرمتموه. هو عقاب لكم من يد الرب. وفي العذاب تتقلبون.(أش50/4.11).
يتبيّن في هذا النّشيد ملامح خادم الله ، الكاهن ، أي شهيد الحقيقة وقربان الحقيقة والّذي يفتدي شعبه بآلامه . الكهنوت ليس وعظاً وإرشاداً وحسب ، وإنّما ذبيحة وموت عن الذّات . والكاهن هو الشّاهد الأمين للحقيقة ، يناضل من أجلها ، وهو المأخوذ من النّاس ليكون للنّاس . هو امتداد للرّبّ ، ويد الرّبّ تباركنا بيده ، وصوته صوت الرّبّ نسمعه في كرسي الاعتراف : " مغفورة خطاياك " . هو المرافق عند الموت، ساعة المجد ، ليساعدنا على العبور نحن الآب .
-ألنّشيد الرّابع : وقال الرب: ((ها عبدي ينتصر. يتعالى ويرتفع ويتسامى جدا. كثير من الناس دهشوا منه، كيف تشوه منظره كإنسان وهيئته كبني البشر. والآن تعجب منه أمم كثيرة ويسد الملوك أفواههم في حضرته، لأنهم يرون غير ما أخبروا به ويشاهدون غير ما سمعوه)). من صدق ما سمعنا به؟ ولمن تجلت ذراع الرب؟ نما كنبتة أمامه، وكعرق في أرض قاحلة. لا شكل له فننظر إليه، ولا بهاء ولا جمال فنشتهيه. محتقر منبوذ من الناس، وموجع متمرس بالحزن. ومثل من تحجب عنه الوجوه نبذناه وما اعتبرناه. حمل عاهاتنا وتحمل أوجاعنا، حسبناه مصابا مضروبا من الله ومنكوبا وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا. سلامنا أعده لنا، وبجراحه شفينا. كلنا كالغنم ضللنا، مال كل واحد إلى طريقه، فألقى عليه الرب إثمنا جميعا.
ظلم وهو خاضع وما فتح فمه. كان كنعجة تساق إلى الذبح، وكخروف صامت أمام الذين يجزونه لم يفتح فمه.بالظلم أخذ وحكم عليه، ولا أحد في جيله اعترف به. إنقطع من أرض الأحياء وضرب لأجل معصية شعبه. وضع مع الأشرار قبره ومع الأغنياء لحده، مع أنه لم يمارس العنف ولا كان في فمه غش)).لكن الرب رضي أن يسحقه بالأوجاع ويصعده ذبيحة إثم، فيرى نسلا وتطول أيامه، وتنجح مشيئة الرب على يده. يرى ثمرة تعبه ويكون راضيا، وبوداعته يبرر عبدي الصديق كثيرين من الناس ويحمل خطاياهم.لذلك أعطيه نصيبا مع العظماء وغنيمة مع الجبابرة. بذل للموت نفسه وأحصي مع العصاة، وهو الذي شفع فيهم وحمل خطايا كثيرين.(أش52/13.15-أش53/1.12).
هذا الكاهن يكفّر عن خطايا الشّعب بذبيحة ذاته وهو البريء . وهذا الكاهن ليس وحده عبد الرّبّ وحسب ، بل كلّ واحد منّا هو كاهن وابن لله به . فكلّ متألّم هو متالّم بيسوع المسيح . آلام المسيح لم تنته معه ، هي متواصلة مع آلام الأبرياء . والجلّادون الّذين ضربوا يسوع هم مستمرّون في كلّ إنسان يُجلد . وإذا كنّا بآلامنا نواصل آلام المسيح ، فنحن بالتّالي بإساءاتنا وأعمالنا السّيّئة نواصل أعمال الجلّادين.
هذا الخادم ، الكاهن ، هو أيضاً الملك الذّي يقوم وينتصر .يسوع المسيح لم ينته على الصّليب . ألمسيح قام ، وكانت النّتيجة حياة جديدة للعالم . مصالحة مع الله وحياة أبديّة نبدأها الآن باتّحادنا بيسوع المسيح.
مسيرة حياتنا مع يسوع المسيح ، كما عبّر عنها بولس الرّسول برسالته لأهل فيليبي (2/5.11) كونوا على فكر المسيح يسوع: هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته واتخذ صورة العبد صار شبيها بالبشر وظهر في صورة الإنسان تواضع، أطاع حتى الموت، الموت على الصليب. فرفعه الله أعطاه اسما فوق كل اسم لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيدا لله الآب.