غالباُ ما يعتري الإنسان شعوريْن متناقضيْن عندما يقع في تجربة أو ضيق . ألأوّل ، احتياجنا إلى الله والثّاني ، الإحساس بأنّ الله تخلّى عنّا . وهنا يمتلك الحزن قلبنا لسببين : ألحزن بأنّ وعود الله لنا ضاعت ، أو الحزن بسبب كيفيّة عقاب الله لنا ، وماذا سينتج عن هذه التّجربة . والأسوء أنّنا غالباً ما نتّهم الله عند وقوعنا في التّجربة .
سوف نعرض ثلاثة مشاهد كتابيّة ، ومن خلالها نتوسّع في النّقاط الواردة أعلاه :
* ألمشهد الأوّل : سقوط الإنسان (تكوين3/1-13)
هذا المشهد يروي لنا كيف أنّ الحيّة أغوت المرأة لتأكل من شجرة معرفة الخير والشّر ، وبالتّالي المرأة أغوت الرّجل . وهنا يجب أن نقول وبقوّة أنّ الله لا يجرّب أحداً !! ولا يمتحنه الشّر ولا يمتحن أحداً بالشّرّ (يعقوب 1/13) . نحن ندخل التّجربة بإرادتنا وبحرّيّتنا . وهذا المشهد يشرح لنا جليّاً ذلك. نرى الحيّة (الشّر ) تناقض كلام الله قطعيّاً : لن تموتا والله يعرف أنّكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشّجرة تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله تعرفان الخير والشّر (تك 1/4-5) . وهذا تحدٍّ كبير يدخله الإنسان ، بين الإلتزام بما طلبه الله منه ، وبين تلبية رغباته . وهنا الإنسان حرّ تماماً في الاختيار. ففي مواجهة الرّغبة وتلبيتها الله لم يتدخّل ، وليس لأنّه ليس حاضراً وإنّما لأنّه يحترم حرّيّة الإنسان . والآية الملفتة ( ورأت المرأة أنّ الشّجرة باعثة للفهم ) .
عندما يسيطر على الإنسان كبرياؤه يقع في التّجربة . وهذا طبيعيّ لأنّنا بشر ، ونخضع للضّعف ، ونفرح حين نظنّ بأنّا أنجزنا شيئاً ما بملء إرادتنا وبعيداً عن الله . ولكن المشكلة أنّه لا يمكننا تحديد ما هو لخيرنا إلّا انطلاقاً من الله ، لأنّه الخير المطلق والمحبّة المطلقة.
عندما وقع الإنسان في التجربة ، ماذا حصل ؟ أوّلاً ، أكلت المرأة وأعطت زوجها وهو أكل بحرّيّته .
ولنرى ماذا حصل عندما أتى الله عند المساء ليقتقد الإنسان : إختبأ الإنسان من وجه الله ، لماذا ؟ لأنّه أدرك في عمق ذاته أنّه أساء إلى الله وبالتّالي إلى نفسه . فأمام الحقيقة المطلقة (الله) يندثر أيّ شرّ . وعندما سأل الله الإنسان إذا خالف الوصيّة ، كان ردّه مفجعاً !! (ألمرأة الّتي أعطيتني لتكون معي هي أعطتتني من الشّجرة فأكلت (12) . الإنسان يتّهم الله !!! (المرأة الّتي أعطيتني) . هذا أوّل إحساس ينتابك أيّها الإنسان لتهرب من مسؤوليّتك . وكم من مرّة تقول : لم يا رب فعلت بي هذا ؟؟ ماذا فعلت لك ؟؟؟ أين أنت يا ألله ؟؟ .... ولا تنتهي الأسئلة ، ولا تحاول أن تنظر إلى ما فعلته أنت ، وتتحمّل مسؤوليّته .
وماذا فعل الله ، ويا لروعة هذه اللّوحة ويا لتسامي الله !! (وصنع الرّب الإله لآدم وامرأته ثياباً من جلد وكساهما ) (22) . أنت تقع في التّجربة لأنّك خالفت ما قاله الله ، تضطرب ، تهرب من وجهه ، تتّهمه ن وهو يأتي ليستر خطيئتك . ألله أكبر من تجربتك أيّها الإنسان ، وأكبر من ضعفك ، وأكبر من رغبتك في تحدّيه . وأنت تنال نتيجة أعمالك ، إن اخترت الله فالطريق واضح أمامك لأنّك تسير في النّور ، وإن اخترت ما هو لخير رغبتك الفانية وكبريائك فستقع ، لأنّك تسير في الظلمة ، ومن يسير في الظّلمة يتعثّر . عندما تختار خيرك بعيداً عن الله ، أنت تضع حقيقة الله جانباً لتضع مكانها حقيقة أخرى تناسبك أنت.
*المشهد الثّاني : يسوع على الصّليب "إلهي ، إلهي لماذا تركتني "
يسوع المتألّم ، المتوجّع ، العطشان ، المنهك القوى ، يسوع الواقع في ضيق عظيم ، مسمّر على صليب العار ، يهان ، يستهزأ به ، يجدّف عليه ، نسمعه يصرخ : إلهي ، إلهي لماذا تركتني ؟؟ . هذا ما نسمّيه في الشّرح اللّاهوتي ، ألإلحاد السّلبيّ . أللّحظة الّتي تشعر فيها أنّ الله تخلّى عنك .
والإنسان هكذا في وقت ضيقه ، يشعر أحياناً بأنّ الله تخلّى عنه . ولكن الله حاضر ولا يتخلّى عنّا لأنّه أمين . ونسمع يسوع يقول لأبيه بعد هذه الصّرخة ( يا أبتي بين يديك أستودع روحي ) (لوقا23/46) .
نعم ، الإنسان يخضع للألم والمرض والضّعف والمحنة ، وهذا بسبب طبيعته البشريّة ، ولكن لا نفقدنّ الثقة بالله ، ولا بأس بمعاتبته ولكن ليس باتّهامه . أدم اتّهم الله ، أمّا يسوع فسأل عنه . وما ذنب الله في ضيقنا ، وما ذنب الله في فقرنا وألمنا ووجعنا . ليس الله من جلد يسوع ، وليس الله من استهزأ به ، وليس الله من سمّره على الصّليب وإنّما الإنسان . ولكن الله قريب ، حاضر ، أطلبه تجده ، إقرع بابه يفتح لك ، إنّه أبوك . وهل تطلب من أبيك رغيفاً فيعطيك حجراً ؟؟
بين يديك أستودع روحي ، بين يديك أستودع همومي ، مرضي ألمي وجعي ضيقي ، ذاتي ، لأنّني أثق أنّك معي.
* ألمشهد الثّالث : شاول ، شاول لماذا تضطهدني (أع9/4)
في هذا المشهد نرى عقاب الله لشاول . شاول ، الفرّيسيّ المتزمّت ، مضطهد كنيسة الله ، مستعدّ لأيّة تضحية من أجل الحفاظ على الشّريعة . يقتل المسيحيين دون رحمة إرضاء لله ، كان لا بدّ من أن يعاقب.
ألله يعاقبنا على ما نفعل من سوء ، ولكن كيف ؟
إنطلق شاول إلى دمشق ليقتل ما تبقى من مسيحين ، وهو يقترب من دمشق ، سطع نور من السّماء حوله ، فوقع على الأرض ، وسمع صوتاُ يقول : شاول ، شاول لم تضطهدني )(3-4) ونعلم تماماً ماذا حصل لشاول ، وكيف تحوّل إلى بولس رسول الأمم.
هكذا يعاقبنا الرّب ، يحوّل شرّنا إلى ما هو لخيرنا . لا يرسل لنا المرض ولا الزّلازل ، ولا يمتنا بحوادث سير . ألله ينادينا باسمنا : أدم ، أين أنت ؟ شاول لم تضطهدني ؟ سمعان سمعان ، أطلب ألّا يفنى إيمانك ، وانت متى عدت شدّد إخوتك ... ألله يحتضنك بعقابه ، لأنّ طرقه غير طرقك ،وحكمته غير حكمتك .
ألله محبّة ، لا تخف أيّها الإنسان ، ولا تحزن ولا يضطرب قلبك ، لا بدّ أنّك تخضع للضّعف ، ولكن ثق ، أنّ أباك الّذي في الخفاء يفتح يديه ليحتضنك ، ليرحمك ، ويستر خطيئتك. يمسح دموعك ويبلسم جروحك ، يحوّل شرّك إلى خير .
لا تحزن إن أخطأت أو إن دخلت في تجربة ، أنت تحزن لأنّك تعي في عمق ذاتك أنّك أسأت أمام الله . أنت تخاف من العقاب لأنّك تعلم ، أنّ ما فعلته مسيء إليك وشوّه صورتك البهيّة الّتي هي على صورة الله . وعندما تقع في ضيق ، تغلب عليك مشاعر الحزن لأنّك تعتقد أنّ الله خذلك ، ولكن إسمع صوت الرّبّ يناديك : قم ! إحمل سريرك وامشِ . تشجّع ، قاوم ، جاهد !! يسوع لم يمسك المخلّع بيده ليقيمه ، بل قال له : قم ، اتّكل على نفسك وعليّ وقم !! ولكن إحمل هذه الصّعوبات وامشِ ، فيسوع يحملها معك . لا تنظر من حولك إلى من لا يفهمك ، إلى من يستهزئ بك ، إحمل صليبك وامشِ ، سوف يلقاك قيروانيّ يحمله عنك ، لأنّ الله يعمل من خلالنا .
في قمّة ألمك عاتب الله ولكن ثق أنّه معك ، إبكِ على صدره ، واعلم أنّ بعد مرور الوقت سوف تقول : أشكر الله لأنّي مررت بالألم أو الضّيق أو التّجربة ، حينها فقط ستعلم أنّ الله كان يعمل دون علم منك.
أخرجوا من حزنكم ولا تشعروا بالذّنب ، كلّنا نخطئ ، وكلّنا باستطاعتنا أن نقوم ، لأنّ المسيح قام وغلب العالم.