مقال: المسيحيون يلتزمون شؤون الارض لكن وطنهم السماء
21 / 04 / 2009
"وان كان الاموات لا يقومون، فالمسيح ما قام ايضا. وان كان المسيح ما قام، فكرازتنا باطلة وايمانكم باطل" (كورنثوس الاول 15, 13 – 14). المسيحية، كما يوجزها بولس رسول الامم في هاتين الآيتين، هي الايمان بأن المسيح قام من بين الاموات واقام الاموات معه.
واحد وجوه التعييد للفصح هو هذا الرجاء الذي يبثه العيد في قلب كل المؤمنين بالمسيح القائم، الرجاء بأن قيامتهم هم ايضا لا ريب آتية. ومن ينتبه الى ايقونة العيد في الكنيسة الارثوذكسية يلاحظ ان المسيح الدائس على ابواب الجحيم يُنهض معه شيخين عجوزين يرمزان الى آدم وحواء جدينا الاولين، ويرمزان في الوقت عينه الى البشرية الخاطئة.
الغاية من قيامة المسيح، اذا، هي القيامة العامة للناس كافة. هذه القيامة المرجوة، والرجاء يقين في المسيحية، كانت العامل الاساسي الذي جعل المسيحيين لا يخافون الموت، فذهبوا وبشروا في المسكونة كلها، وواجهوا بشجاعة هائلة الاضطهادات والتهديدات، وقبلوا الاستشهاد رافضين نكران الههم وجحود ايمانهم بأنه مخلص حياتهم. فبعد ان رأينا ضعف التلاميذ وجبنهم وفرارهم من وجه اليهود بعد القاء القبض على معلمهم، وجدناهم بعد لقائهم بالناهض من بين الاموات لا يهابون اي خطر يتهدد حياتهم، بل كانت تشتد عزيمتهم كلما زاد الضيق والضغط عليهم.
هذه العزيمة التي لا تقهر استمرت في الاجيال الاولى للمسيحية. يكتب القديس اغناطيوس الانطاكي (نحو عام 107) الى اهل روما حيث اقتيد مكبلا ليستشهد "لا شيء يمنعني عن المسيح"، لا ملذات ولا مغريات، ولا ممالك ولا سلطان، "اطلب المسيح الذي مات من اجلنا، وقام ايضا من اجلنا. قربت الساعة التي سأولد فيها". وهو نفسه يؤكد مركزية القيامة في ثباته على الايمان وقبوله الاستشهاد ببسالة فائقة، فيقول في رسالته الى أهل تراليس: "اذا كان المسيح قد تألم ظاهريا كما يقول البعض من الملحدين، فما معنى القيود التي احملها؟ في مثل هذه الحالة يكون موتي عبثا وما اقوله عن المخلص خرافة. لقد مات المسيح من اجلنا ليحفظنا من الموت".
الايمان بالحياة الابدية هو ما واجه به المسيحيون الاوائل الاضطهادات التي دامت من عهد نيرون (عام 64) الى نهاية عهد ديو كليتيانس (311). ولولا هذا الايمان الجبار لانتهت المسيحية بعيد صعود المسيح الى السماء. وفي هذه الحقبة ازدهرت الكتابات الدفاعية عن المسيحية، كتلك التي كتبها اغناطيوس الانطاكي، وكلها تتضمن زهدا بالدنيا وفتنتها وتشجيعا على اقتبال المصائر الاكثر سوءا حفاظا على المبادىء السامية والتعاليم التي جاء بها المسيح. لكن هذا الزهد لم يمنع المسيحيين من الانخراط في الشأن العام للأوطان التي كانوا يحيون فيها. وتقدم لنا في "الرسالة الى ديو غنيطس" (من القرن الثاني، كاتبها مجهول الهوية) وصفا للمسيحيين الاوائل وصلتهم بمجتمعاتهم.
تقول الرسالة ان المسيحيين "لا يتميزون عن غيرهم من الناس لا بالبلد، ولا باللغة، ولا بالثياب. ويتقيدون بالعادات المحلية في ما يختص بالملبس والمأكل وطريقة العيش". وعن علاقتهم بأوطانهم تقول الرسالة: "انهم يقيمون كل في وطنه، ولكن كالغرباء النزلاء. ويؤدون جميع واجباتهم كما يؤديها المواطنون، ويتحملون جميع الاعباء كتحمل الغرباء. وكل ارض غريبة هي وطن لهم، وكل وطن هو ارض غريبة لهم. انهم في الجسد، ولكنه لا يعيشون بحسب الجسد. ويقضون حياتهم على الارض، ولكنهم مواطنو السماء. انهم يحبون جميع الناس والجميع يضطهدونهم" (تاريخ الكنيسة المفصل، المجلد الاول، دار المشرق، ص 141).
حبذا لو يستعيد المسيحيون بعامة، واللبنانيون منهم بخاصة، هذه الصورة البهية التي كان عليها المسيحيون الاولون. فهم ان شاؤوا هذه الدنيا وحقوقهم فيها ينبغي الا ينسوا اسمهم الذي كان في البدايات وحده يكفي لارسال حامله الى الاستشهاد. ينبغي الا ينسوا انهم اولا جماعة القيامة، جماعة المسيح القائم من الموت.
الأب جورج مسّوح- جريدة النهار 21.04.2009