نحن نؤمن أن الآب أرسل الإبن الذي به ننال الحياة الأبدية. "هكذا أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية". (يوحنا3/16). هذه المحبة ليست مجرّدة بل مجسّدة في حضور المسيح ابن الله بيننا، بالتجسّد، فرسالة المسيح هي أوضح ظهور لمحبة الله الآب. وبهذا المعنى قال بولس الرسول:" وهو الذي لم يوفّر ابنه الوحيد بل أسلمه من أجلنا فكيف لا يمنحنا به كل شيء"، (رومة 8/33).وعنه أيضاً قال الرسول بولس:" وهو الذي أحبّني ووهب نفسه من أجلي" (غلاطية2/20).
نعم، إنّ المسيح أحبّني أنا، أنا شخصيّاً.. والمسيح أحبنا وبذل نفسه لأجلنا وحررنا من كل شيء، وجعلنا خليقة جديدة ونقلنا إلى ملكوته وملكوت أبيه، وبدأ معنا عهداً ودهراً جديداً.
يقول القديس أغسطينوس في شرحه لرسالة القديس يوحنا الأولى ما يلي:" ذاك هو قوام المحبة، وأظهر الله محبته لنا حين أرسل ابنه الوحيد إلى عالمنا حياةً لنا. وهذا قوام المحبة، ما أحببناه نحن أولاً بل هو أحبّنا ليجعلنا نحبّه. أرسل ابنه ذبيحة استغفار عن خطايانا، قرباناً ومقرّباً. لقد قدّمه قرباناً تكفيرياً عن خطايانا، وأين وجد القربان والضحية النقية التي شاء أن يقدّمها؟ ما وجد إلاّ نفسه مقرّبها.
إنّ يسوع هو الجسر الذي يصل السماء بالأرض، هو السلّم الذي رآه يعقوب في حلمه، "سلّماً منصوباً على الأرض، رأسه السماء وملائكة الله تصعد وتنزل عليه، (تكوين28/12). يسوع هو نقطة لقاء السماء بالأرض. لمّا سأل توما الربّ قائلاً: " يا سيّد نحن لا نعرف إلى أين أنت ذاهب فكيف نعرف الطريق؟ أجابه الرب:" أنا الطريق والحق والحياة لا يجيء أحد إلى الآب إلاّ بي"(يوحنا14/5-6).
يسوع هو الطريق إلى الآب، هو وحي الله الكامل، ومن سار على خطى إنجيله وآمن به عرف الآب لقي وجهه العظيم. يسوع هو الحق لأنّه الله المتجسّد ، هو الحقيقة الكاملة والوحيدة التي لا تحتمل الشك ولا تحمل وجهاً آخر. هو الحياة ( جئت لتكون لهم الحياة والحياة الوافرة.) هو الطريق والغاية معاً، وهو الحق لأنّه يُظهر الآب للعالم في شخصه، وفي تعليمه وأعماله. عبّر موسى في التوراة عن حقيقة الله، أما يسوع فعبّر عنها في شخصه، إنّه الله المتجسّد. يسوع هو الحياة لأنه يُشرك المؤمنين به في حياة الله، ولا يشترك في حياة الله إلاّ من آمن بيسوع ربّاً ومخلّصاً وحفظ وصاياه .
نحن لا نعلم كيفية الوصول إلى الله، فأتى بنفسه ليرشدنا إلى الطريق. ونقرأ في (يوحنا 8/24)" ستموتون في خطاياكم إذا كنتم لا تؤمنون أنّي أنا هو". نعم، إن لم نؤمن بيسوع المسيح نموت بخطايانا لأنها ستبقى عائقاً بيننا وبين الله. الشعب اليهودي كان يقرّب ذبيحة الحمل محرقة لله كي يكفّر عن خطاياه، ولم تكن تنفع وإلاّ لما أعوزه تكرارها، أما مع يسوع فالخاطئ يُقرّب يسوع المسيح ذبيحة لغفران خطاياه، فيتصالح مع الآب ويشترك في الحياة الإلهية. فإن لم يؤمن بيسوع كيف ستغفر خطاياه، فلا محرقات ولا تقديمات ولا أعمال صالحة مهما بلغ صلاحها، تبعد عنه الخطيئة؟. إن لم نلتقٍ بيسوع المسيح، إن لم نتعرّف إليه ونحبّه ونختبره لن نتحرر من خطايانا، فالحياة مع المسيح تحررنا من كل شيء ونسير معه الطريق نحو الآب. من رفض المسيح يسوع رفض الإيمان به وبالتالي رفض الطريق إلى الله أو أضاعها ، وحكم على نفسه بالهلاك لأنه رفض الآب الذي أرسل الإبن، ورفض الإبن الذي هو الحق ورفض الروح القدس الذي هو روح الحق(متى12/31)، ولا ينجو من سلطان الخطيئة والموت إلاّ من آمن بيسوع المسيح ربّ الحياة، وما الخلاص إلاّ العبور مع يسوع إلى جوار الآب .
لقد ذكرنا أنه بيسوع المسيح عرفنا الله، "من رآني رأى الآب"(يوحنا14/9) ، " إنه صورة الله غير المنظور"(كولوسي1/15) ، كما أنه صورة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. صورة الله هي يسوع المسيح والمثال هو يسوع المسيح. عندما نلتقيه ندرك ما هو مشروع الله، كما ندرك سبب وجودنا وما هو دورنا في هذا الوجود ... . يسوع هو الجواب الحقيقي على كل الأسئلة التي تبادر إلى أذهاننا. عرفنا معه أن الله "آب" رحوم، يعمل كل شيء لخير الإنسان، يغفر بسخاء مهما كانت خطيئة الإنسان، يغفر باستمرار، ويحوّل كل ما هو شرّ إلى صلاح، وبغفرانه تتدفّق المحبة والنعمة في نفوس البشر."حيث تكثر الخطيئة تفيض النعمة"(رومة5/20).
عرفنا أعمال الآب بأعمال الإبن:" الآب يحب الإبن ويريه كل ما يعمل، وسيريه ما هو أعظم فتعجبون، فكما يقيم الآب الموتى ويحييهم كذلك الإبن يحيي من يشاء"(يوحنا5/20-21).
إذاً لولا الربّ يسوع لما عرفنا الله، ولبقي الله فكرة مجرّدة وبعيدة جدّاً عن مفهوم وحياة الإنسان. وبالرب يسوع لم نعد عبيداً بل أصبحنا أبناء وارثين لملك أبينا السماوي.
هكذا أحب الله الإنسان، أتى يبحث عنه في شقائه، وهو في بحثٍ مستمر عنه حتى نهاية التاريخ. في كل الأديان يبحث الإنسان عن الله باستمرار، أما في المسيحيّة فالله بذاته يبحث عن الإنسان.
هكذا أحب الله العالم، نزل إلى مستوى الإنسان ليرفعه إلى مستوى ألوهته، " كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل هو"(متى5/45). وكيف يعرف هذا الإنسان الوصول إلى الكمال إن لم يقتدِ بالمسيح الذي هو صوره الله وصورة الإنسان. ويردف القديس بولس:" هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة، بل أخلى ذاته واتّخذ صورة عبدٍ، صار شبيهاً بالبشر، وظهر في صورة الإنسان، تواضع، أطاع حتى الموت على الصليب. فرفعه الله، وأعطاه إسماً يفوق كل إسمٍ لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض. ويشهد كل إنسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب (فيليبي2/6-11). وما أجمل نشيد بولس الذي فيه يبرز مختلف مراحل سر المسيح: وجوده السابق في صورة الله، تنازله في التّجسّد إلى صورة الإنسان، موته على الصليب وقيامته وتمجيده.
عرَّفنا يسوع مشيئة الله الآب، ومعه أدركنا سبب وجودنا ومسلكية هذا الوجود، هو المثل الأعلى والأسمى لنا، هو الله الكامل الذي نصبو إليه، وهو الإنسان الكامل الذي علينا الإقتداء به.
هذا هو مشروع الله الخلاصي، إنها محبة يسوع المسيح المختلفة عن محبة البشر، وهذا هو منطق الله المتناقض تماماً مع منطق البشر. محبة المسيح هي بذل الذات من أجل أحبّائه، وكلّنا أحبائه دون استثناء، ومنطق المسيح هو البحث الدائم عن الإنسان لانتشاله من شقائه وضعفه ورفْعه إلى مستوى الألوهة كي يستحق الدخول إلى ملكوت السماوات، إذ يقول لنا الرب:" ها أنا واقف على الباب أقرع، فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، دخلت إليه وتعشّيت معه وتعشّى معي(رؤيا3/20). إنها محبة المسيح الفريدة التي تبحث عن كل إنسان وعن حضور المسيح في كل مؤمن، خصوصاً بسرّ كلمته وسرّ القربان المقدّس. فالربّ يسوع لا ينفكّ يطرق بنعمته كل باب، لكنّه لا يدخل عنوةً، برغم أنّ في يديه مفتاح كل القلوب، بل ينتظر في الخارج الجواب.
فلنشرّع الأبواب للمسيح دون خوف وبكل ثقة، فيدخل بيوتنا وقلوبنا ويصبح فرداً من عائلتنا الأرضية، ونصبح نحن أفراداً من العائلة السماوية.
**********
1-- الحياة في المسيح: خليقة جديدة.
"فمن هو في المسيح هو خلق جديد: لقد ذهب العتيق وصار خلق جديد" (2قورنتس5/17).
خلق الله الإنسان من فيض محبته، فخلقه على صورته ومثاله،(تك1/26). خلق له عقلاً يفكر وقلباً يحب، خلقه حرّاً وأخضع له كل شيء.
لم يقل الله، ليكن إنساناً، فكان، إنما قال:" لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلّط ... على جميع وحوش الأرض" (تك1/26). نحن نرى أن الله يعير اهتماماً خاصاً للإنسان، كما لو كان يريد أن يجعله ممثّله على الأرض، وهذا يظهر في بقية الفصل الثاني من سفر التكوين (تك2/5-7) :" كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض ولا كان إنسان ليعمل في الأرض، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض؛ ونفخ فيه نسمة حياة، فصارنفساً حية." رواية الخلق الأولى تظهر لنا خلق هذا الكون الذي عهد به الله إلى الإنسان، كما ذكرنا، والرواية الثانية تقول لنا لماذا خُلق الإنسان آخر ما خُلق: هذا ليُتِمَّ العالم ويقوده إلى الله، لأن الإنسان، يقول النص، ضروري ليحرث الأرض كما أن المطر ضروري لينبتها.
صنع الله الإنسان من التراب ولكنّه نفخ فيه نسمة الحياة، فأضحى الإنسان خليقة حية لأن الله يمنحه الحياة باستمرار، بنفسه وحضوره وقدرته. إنّ عظمة الإنسان وجماله وحرّيته تعود جميعها إلى واقع أن الله خلقه على صورته .( التعليم المسيحي الأورثوذوكسي للبالغين)."لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا"، إنه الثالوث الأقدس يتشاور في ما بينه ليبدع قمّة الخليقة وذروتها، "الإنسان" . وبارك الله الإنسان وأخضع له كل ما خلق، مع أن الإنسان لم يشارك في عملية الخلق كي يستحق هذه الشركة مع الله. وبهذا أصبح الإنسان سيّد الكون باسم الله.
" ونظر الله إلى ما صنعه فهتف أنه حسن جداً "؛ هتف الله بفرح وغبطة وإعجاب، لأن الله أحبّ الإنسان قبل أن يوجده، وأحبّه بعد أن صنعه. لقد كان الإنسان في فكر الله ثم صار خليقة على صورته. وعاش الإنسان مع الله في ألفة ومحبة إلى أن ملأته الرغبة في الحلول مكان الله، فغالباً ما يتسلط الكبرياء على الإنسان فيصبح ضحيته. سقط آدم وأسقط معه جميع البشر " وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس بالذي جميعهم خطئوا فيه"(روما5/12). شوّه الإنسان صورة الله التي فيه، ولكن الله سيعود ويرمم هذه الصورة بيسوع المسيح صورة الله غير المنظور، فيجعله في المسيح خلقاً جديداً.
خلق الله كل شيء بالمسيح يسوع، بالكلمة، فهو مبدأ الخلق ومثاله وغايته، كل شيء به وفيه وإليه. وجدّد المسيح خلقاً أفسدته الخطيئة، جدّد خلقاً شوّه صورة الله، فصار محور هذا الخلق كلّه إنسان جديد، يحيا حياةً جديدة، حياة برٍّ وقداسة (أفسس2/10). " نحن خليقة الله، خلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدّها لنا من قبل لنسلك فيها." لسنا فقط بعض من خليقة الله بل ذروة خليقته، بانتظار أن نصل إلى جسد المسيح الذي هو بناء الله. يسوع المسيح هو سفر تكوين العهد الجديد، جبلنا من محبته، وأعاد خلقنا من جديد، ودعانا إلى الإتحاد به اتحاداً وثيقاً بالمحبة، فلا ننفصل عنه ولا ينفصل عنا، وبالتالي أعاد لنا بهاء صورتنا. "إجعلهم كلّهم واحداً ليكونوا واحداً فينا أيها الآب، مثلما أنت فيّ وأنا فيك" (يوحنا 17/21). وهذا الإتحاد بيسوع المسيح هو اتّحاد المحبة، يوَحّدنا بعضنا ببعض، فنصبح دليلاً فريداً على صحة رسالة يسوع المسيح وعلى حضور الله فينا حضوراً نهائياً. الوحدة في ما بيننا تلزم الفرد بالجماعة والجماعة بالفرد، حتى أنّ صلاتنا لله لاتعود فرديّة بل جماعية حتى ولو كان كلُّ منّا يصلّي بمفرده. ونحن نتلو الصلاة الرّبية، نتلوها مع كل مؤمن في الأرض، كذلك قانون الإيمان....
هذا هو الخلق الجديد: الآب في الإبن، والإبن في الآب والمؤمنين بيسوع المسيح في الآب والإبن معاً، والروح القدس يضرم فيهم نار المحبة. الخلق الجديد ينتمي إلى العائلة الإلهية، هو يحيا في العالم في قلب الثالوث الأقدس، وحين يخرج من هذا العالم يستقرّ في قلبه نهائياً. " من أحبني سمع كلامي فأحبه ابي ونجيء إليه ونقيم عنده" (يوحنا14/23)، وهذا أبلغ تعبير عن صلة الثالوث الأقدس بالمؤمنين الأمناء.
إذاً نحن أبناء المحبة الإلهية، ننمو من خلالها وهي قوتنا اليومي. لا أحد يستطيع أن يحيا من دون محبة المسيح التي تنميه والتي تظهر يسوع للعالم، وإن استطاع فهو جثة تتنفس، أرض قاحلة لا زرع فيها وصحراء فارغة، عطشة، يحرقها لهيب شمس النهار وينخر عظامها برد الليل.
يقول الرب:" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله "(متى4/4). الله محبة، وكلمته يسوع المسيح محبة وبالتالي نحن نحيا بمحبة الله. فالخبز يحيي أجسادنا والمحبة تحيي قلوبنا وأرواحنا وكياننا الذي لا ينتهي. إتّحادنا بالكلمة "يسوع المسيح" يحيينا للأبد، فلا يفصلنا شيء عن محبة المسيح، كما ينشد القديس بولس، " فإنّي واثق ان لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رئاسات ولا أشياء حاضرة ومستقبلة، ولا قوّات ولا علو ولاعمق ولا أي خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ربّنا" (رومة8/38-39).
من هو في المسيح هو خلق جديد، وقاعدة هذا الخلق الجديد هي المحبة، وشريعته الوحيدة. " من أحبّ الغير أتمّ الشريعة (رومة13/8)، إذ لا نحصر وصية المحبة بقريب أو جماعة، فالقريب هو كل إنسان عضو في العائلة البشرية التي توحّدت في المسيح. والمحبة هي غاية الشريعة كلها، ولا غاية للشريعة إلاّ المحبة (غلاطية4/15)، والمحبة هي مختصر الشريعة. يقول القديس أغسطينوس: " أحبب وافعل ما تشاء"، فإن أحببت أخاك في المسيح لن تسيء إليه أبداً، لأنك سوف ترى فيه دوماً وجه المسيح. المحبة في قلب الإنسان هي كل شيء، وشرط وجودها اللقاء يسوع المسيح، المحبة الكاملة، فيمتلئ من نار محبة المسيح ويمنحها بدوره للآخرين. فمن أين نأتي بالمحبة إن لم نلتقِ بيسوع؟
عبّرت القديسة تريزا الطفل يسوع في إحدى قصائدها عن هذا الحب قائلة:
" الحياة بالحب هي الإحتفاظ بك أيها المسيح
يا ايها الكلمة غير المخلوق! يا كلام إلهي
آه! أنت تعلم يا يسوع الإلهي أنّي أحبك
وروح الحب يلهبني بناره
وبحبي لك أجتذب الآب
فيحفظه قلبي دون تخاذل
أيا أيها الثالوث إنّي لمحبوس أسير".
هذا هو الإنسان الجديد بيسوع المسيح، إنه يحيا بمحبته ولاشيء سوى ذلك؛ إنه محرَّر بالمحبة، فهي تحرّره من كل شيء، من اضطرابه وقلقه الدائم، من ظلام تفكيره والجهل المتعشعش فيه، من كبريائه الذي دوماً يغويه، ويدفعه إلى الإقتراب من شجرة معرفة الخير والشر بدلاً من الإقتراب من شجرة الحياة
. عندما يلتفت إليك يسوع وينظر في عينيك يغيّر قلبك وكيانك ويفيض محبته عليك فتصبح أسيرها.
يسوع أحبنا وبذل ذاته عنّا، يبقى علينا ان نسلك طرق هذه المحبة، "أسلكوا في المحبة"(أفسس5/2)، فالحب الذي يدفعنا إلى الاقتداء بالمسيح هو حب المسيح الذي عبّر عنه بأبلغ تعبير على الصليب. هناك عند أقدام الصليب، تجلت رحمة الله ومحبته بامتياز في منحه الغفران للجميع.
...أسكن الرب الإله الإنسان العتيق جنّة عدن ليفلحها ويحرثها، وأسكن الرب يسوع الإنسان الجديد في قلب الله، قلب الثالوث الأقدس.وكما أخضع الرب كل ما صنعه للإنسان دون استحقاق منه، كذلك بذل ذاته عنه حبّاً به وخلّصه دون استحقاق منه. فهل يستطيع عقل بشريّ أن يدّعي فهم هذا العشق الإلهي للإنسان؟.
**********
2- الوصية الجديدة.-
" أعطيكم وصية جديدة:" أحبوا بعضكم بعضاً. ومثلما أحببتكم أحبوا بعضكم بعضاً. فإذا أحببتم بعضكم بعضاً عرف الناس أنكم تلاميذي"( يوحنا13/34-35).
كل الديانات القديمة والجديدة تدعو إلى المحبة، حتى الأشرار يحبون بعضهم، فما الجديد في هذه الوصية. هذه الوصية جديدة لأن يسوع عاشها بنوع جديد وفريد، في حياته وموته وقيامته، وجعل المحبة البشرية الأخوية امتداداً لمحبته الإلهية لنا. مثال تحابنا حب يسوع نفسه لنا، وما يتطلّبه هذا الحب من خدمة وبذل. والتّحاب الأخوي أصدق علامة وأوفى برهان على حضور الله بين البشر، وهي أيضاً جديدة لما بلغ بها يسوع من كمال: أمر الرب تلاميذه بحب الأعداء (متى5/43-47)، وجعل حبّنا للقريب من حبنا لله (متى22/34-40، مرقس12/28-34) وجعل من التّحاب علامة الأزمنة الجديدة. هذه الوصية جديدة، لأنها ثورة فكرية على مجتمعاتٍ جاهلة وحاقدة ، لا تعرف إلاّ ثقافة العنف والموت والإدانة.
ليست المحبة مجرّد مشاعر حارّة، لكنّها سلوك يتجلّى في الفعل، وسوف نرى في (1قورنتس13/1-13) شرحاً وافياً لعمق هذه المحبة الإلهية:
" لو تكلمت بلغات الناس والملائكة، ولا محبة عندي، فما أنا إلاّ نحاس يطنّ أو صنج يرن.
ولو وهبني الله النبوة وكنت عارفاً كل سرّ وكل علم، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبة عندي، فما أنا بشيء.
ولو فرّقت جميع أموالي وسلّمت جسدي حتى أفتخر، ولا محبة عندي، فما ينفعني شيء.
المحبة تصبر وترفق، المحبة لا تعرف الحسد ولا التّفاخر ولا الكبرياء.
المحبة لا تسيء التصرّف، ولا تطلب منفعتها، ولا تحتد ولا تظن السوء.
المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق.
المحبة تصفح عن كل شيء، وتصدّق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء.
المحبة لا تزول أبداً. أما النبوّات فتبطل والتكلم بلغات ينتهي، والمعرفة أيضاً تبطل لأن معرفتنا ناقصة ونبوّاتنا ناقصة. فمتى جاء الكامل زال الناقص."
إنّ هذا النشيد هو من أروع الصفحات في رسائل بولس كلّها علاوة على الرسالة إلى رومة (8/31-39). إنه "نشيد أناشيد الحب المسيحي"، ويتضمّن ثلاث مقاطع:
أ- سمو المحبة على المواهب الروحية والفضائل كافة، وضرورتها لهنّ جميعاً(1-3).
ب- مميزات المحبة، وهنا نرى نشوة بولس الصوفي واللاهوتي العمليّ والمحلّق معاً(4-7).
ج- قيمة المحبة الخالدة(8-13).
المقصود هنا محبة الإخوة، لا محبة الله، ولو كانت حاضرة أبداً في أفق تفكير بولس، إذ يضع المحبة في علاقة خاصة عميقة مع الإيمان والرجاء(13). المحبة في هذا النشيد هي محبة الإخوة التي ينبوعها الله الآب نفسه الذي أحب إبنه الوحيد وأحبنا فجاد بابنه من أجلنا ليصالحنا نحن الخطأة ويختارنا له بنين. من محبة الآب هذه، تنبع محبة الإبن لنا وتفيض علينا بالروح القدس.ومن تلك المحبة الثالوثية تنبع محبة الإخوة فينا، وهي وصية الرب المميزة، ووصية الرسل الأوّلين. قوام المحبة الإخلاص والتواضع وبذل الذات والخدمة، وتظهر في الأعمال، ولا تخاف شيئاً. من الحق تحيا وتكسب فهماً وحسّاً أدبيين، وتفتح الإنسان على معرفة سرّ الله وسرّ المسيح. المحبة تُسكن المسيح في النفس وتغذّي الفضائل الإلهية، هي وحدها الباقية لا يطالها الزوال في المشاهدة الطوباوية يوم يمنح الله أبناءه كل ما وعد به الذين يحبّونه. (راجع: أفسس1/6، كولوسي1/13، رومة5/8، 8/32-39، 2 قورنتس5/18-21، أفسس2/4-7، 1/4-5، 1يوحنا3/1، رومة8/35-37-39، 2 قورنتس5/14، 1 ثيموتاوس1/13، غلاطية5/13-14، 1 قورنتس8/1-3، 13/8-12).
من خلال هذا النشيد يظهر لنا جليّا مدى اتّحاد بولس بالرب يسوع، إذ جعل من المحبة عنصراً وحيداً ليكون الإنسان إنساناً. فكل ما يملك الإنسان، وما يصنع وما يعمل وما يدرك هو فراغ إذا لم تكن المحبة هي التي تقوده وتحييه. وهذا الكلام يقودنا إلى رسالة القديس يوحنا الأولى حيث يشرح لنا وصية المحبة التي هي خلاصة الوصايا كلّها.
ليست الحياة المسيحية إيماناً نظرياً فحسب بل هي أيضاً سلوكاً في خطى المسيح ، والتزاماً بالمحبة التي بها بذل المسيح نفسه عنا، "ومن قال إنه ثابت في الله، فعليه أن يسير مثل سيرة المسيح" ( 1يو2/6). لا لمحبة الله دون محبة الإخوة، ولا محبة للإخوة بدون محبة الله. أنت تعلم أنك تحب الله حين تحب أخاك، وتعلم أنك تحب أخاك حين تحب الله.
إذاً وكما ذكرنا، أن الثبات في الله يفترض السير على خطى يسوع المسيح والإتحاد به، واتّباع طريق المحبة. لا أحد يستطيع أن يحب كما أحب المسيح، فليس حبّ الإنسان الذي خلّص العالم، إنما يستطيع الإنسان أن يشارك المسيح في حبّه، لأنه هو النموذج الحقيقي للحب، فيتّحد به ويثبت فيه وتصبح حياته في المسيح وللمسيح، ويصبح يسوع المسيح امتداداً لحياته في الله، "ولكن من اتّحد بالرب صار وإياه روحاً واحداً" (1 قورنتس6/17). نكون في المسيح، نعيش في المسيح، وهذا يعني علاقة مستمرة، تحتاج إلى مثابرة من قبل الإنسان كي ينمو تدريجياً في المحبة. ومن يقول أنه يعرف المسيح وهو لا يحفظ هذه الوصية الجديدة ويتممها، هو كاذب ولا يكون الحق فيه. وهنا لا نتكلّم عن المعرفة النظرية وحسب بل عن الدخول في علاقة شخصية مع المسيح، ومشاركة عملية في حياة الله من خلال معرفة الرب يسوع. لا تكفي الأقوال بل الإفعال، ويكذب من يفتخر بالمعرفة ولا يحفظ هذه الوصية. ليس المطلوب أن نقلّد يسوع بل أن نعيش يسوع، فيصبح هو من يحيا فينا وليس نحن من نحيا، كما يقول القديس بولس. من يهمل وصية المحبة، لا يسير في نور الوحي الإنجيلي (1يوحنا2/10) بل يغرق في الظلام، وأكثر من ذلك هو قاتل لأخيه (3/15)، إذ يحجب عنه حب المسيح. إن لم تحب أخاك فأنت تقتله وبالتالي تقتل صورة الله التي فيه.
ونتابع مع القديس يوحنا في الفصل الثالث من رسالته الأولى، فنَدهش معه بالمحبة التي خصّنا بها الآب إذ جعلنا أبناء له، فأشركنا بنعمته بالطبيعة الإلهية. وكل من أتى عملاً مضاداً للمحبة لا يحق له أن يفاخر بانه مولود من الله، ومن يفاخر بذلك عليه أن يمتلئ من المحبة وألا يبغض أخاه وحسب بل أن يكون مستعداً دوماً للموت في سبيله. وذاك ما حققه المسيح في ذاته حين مات عن الجميع وصلىّ من أجل صالبيه : " إغفر لهم يا أبتي لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لوقا23/34)، ولو اكتفى بهذا دون سواه لما كان له تلاميذ ساروا على خطاه. فها هو "اسطفانوس " المحكوم عليه بالموت رجماً يركع ويقول: "لا تقم لهم يا رب هذا الإثم (أع7/60)، أحب اسطفانوس قاتليه ومن أجلهم مات. وها هو بولس الرسول يقول: " سأضحي بذاتي من أجل نفوسكم" (2قورنتس12/15)، وبولس هذا كان ممن صلّى عنهم ولأجلهم اسطفانوس حين كانوا يرجموه. لقد أحب اسطفانوس بولس الذي كان حاضراً على رجمه فصلّى من أجله.
ذاك هو قوام المحبة، إن عظمت المحبة في شخص إلى هذا الحد ودفعته إلى الموت عن إخوته كانت فيه كاملة. ولأن المحبة هي كمال، يتابع القديس يوحنا في (3/14)، "نحن نعرف أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب إخوتنا. من لا يحب بقي في الموت." وكأن الموت والحياة منطقتان مفصولتان ولا يعبر من الموت إلى الحياة إلاّ سامع كلمة يسوع بإيمان:" الحق الحق أقول لكم ، من يسمع كلمتي ويؤمن بمن أرسلني فله الحياة الأبدية". ولا ينتقل من الموت إلى الحياة إلاّ من أحب أخاه، فالذي يحيا في المحبة هو يحيا في يسوع المسيح وبالتالي فلا يعرف الموت، بل الحياة الأبدية. من يحيا في المسيح يحيا في المحبة التي بها يجود بنفسه في سبيل إخوته كما جاد الرب بنفسه من أجلنا. لا يقصد يوحنا أن يعلمنا كيف يجب أن نموت عن الآخرين بل كيف يجب أن نحيا علاقتنا بهم؛ بذل الذات الكامل الحرّ هو أسمى درجات المحبة.
ولا تكون المحبة المسيحية في كلام خارجي فارغ بل في أعمال صريحة مستقيمة، نابعة من وحي الحق والإيمان الذي أفاضه علينا الله في المسيح يسوع، والإيمان الحق هو أصل المحبة وينبوعها. " من يؤمن ويحب يكون في الحق ويسلك في الحق ويفعل الحق، ومتى مثل أمام الرب الرحيم يطمئن قلبه" (3/18-19).
المحبة المسيحية تنبع من قلب الله، إنها ذات طابع إلهي، إنعكاس من الله في قلب الإنسان المؤمن المحبّ.
"الله محبة" ، ليس هذا التعبير تحديداً لطبيعة الله المجرّدة، بل هو حصيلة تأمّل عميق للرسول يوحنا في عمل الله الخلاصي، خصوصاً في شخص ابنه يسوع المسيح.
"الله محبة" ليست المحبة وصفاً نظرياً وتحديداً جوهرياً لطبيعة الله جوهر ذاته الإلهية، بل هي وصف للعمل الخلاصي الكامل الذي حققه كل من الأقانيم الثلاث في تاريخ الخلاص. ويشدّد يوحنا الإنجيلي على محبة الإخوة، الذين يشاركون في الإيمان الواحد، لكنه يعطي لكلمة "إخوة" بعداً واسعاً يشمل الناس جميعاً.
" الله محبة"، لأنه أعطانا ابنه الوحيد لنستطيع أن نكون له أبناء، نرث معه الحياة الابدية. نحن لا ننظر هنا إلى محبة مجرّدة، إنها مجسّدة في حضور يسوع المسيح إبن الله بيننا الذي هو أوضح ظهور لمحبة الله لنا." الله لم يراه أحد قط، ظهر لنا، فأبصرناه في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي عنه هو هو خبّر" (يوحنا 1/18). الإيمان هو مصدر المعرفة والمحبة، فإن تعرّفنا إلى يسوع وآمنا به عرفنا المحبة الإلهية.
" الله محبة"، ومحبته تسبق محبتنا وهي أساس محبتنا وغايتها ومثالها الأعلى. ولا ندّعي أننا نحب الله ونحن لا نحب الإخوة، كل الإخوة (4/20)، فكيف نستطيع أن نحب الله الذي لا نراه ولا نحب أخانا الذي نراه، وكيف يصدّقنا الله؟ من لم يحب أخاه ينعته القديس يوحنا بالكاذب، فالإنسان الذي لا يحب أخاه بالعمل والحق حبّاً حسّياً ملموساًهو قاصر جذريّاً عن أن يحب الله غير المحسوس. إن محبتنا الأخوية هي مقياس محبتنا لله، ومحبتنا لله وعملنا بوصاياه هي مقياس محبتنا للإخوة. وهذا برهان على أن المحبة الإخوية هي من أصل إلهي، ذات بعدين أفقي وعامودي إلهي.
" الله محبة"، وكل ما هو ضد المحبة هو ضد الله، ولا يزعمنَّ أحد قائلاً: " حين أكره أخي أرتكب خطيئة ضد إنسان، بل أرتكب خطيئة ضد الله. أتجرؤ بعد اليوم أن تخالف إرادة الله وألاّ تحب أخاك؟ ( القديس أغسطينوس). أتجرؤ بعد الآن ألا تنظر إلى حاجة أخيك ، حتى ولو كان عدوّك، فهو لم يعد كذلك، هو أخوك، وأخوك هذا مخلوق على صورة الله ومثاله، إنه عضو معك في جسد المسيح، إنما عضو متألم، فهل تنزع عضواً من جسد الرب وترميه أم تعالجه، بل أكثر من ذلك، تبذل كل طاقاتك وجهودك من أجله؟ كذا قال الرب:" أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لمضطهديكم" (متى5/44-45)، ولم يقل الرب يسوع هذا الكلام عبثاً أو كطرح لمثاليات معينة، بل قصد الرب أنه حين نحب أعداءنا، ونصلّي من أجلهم، نحوّلهم إلى أعضاء سليمة في جسد الرب، بل أكثر من ذلك نحن نضعهم على طريق القداسة. وهل تفرح إذا ما لم يرافقك أخوك إلى أحضان الآب السماوي. عندما نغدو إلى ملكوت أبينا السماوي لن يسألنا كم فقيراً أطعمنا، فالكل يستطيع فعل ذلك إنما سيسألنا من أتى معنا؟ .
يسوع أحبنا جميعاً فخلّصنا وإلاّ لما خلص أحد. ولم يحب يسوع خاصته أكثر من الفريسيين والكتبة والرومان، لقد أحب الجميع وخدم الجميع حتى يهوذا الذي سلّمه لاحقاً، غسل له الرب رجليه.
"أحبوا أعداءكم"، لأن المحبة تبني وترفع إلى مستوى مشروع الله الخلاصي، أي أن محبة الله تحوّل الشر إلى الخير لأن الله أكبر من شرّنا كما أنه لا يخضع لتصرّفاتنا. وإذا كنّا نريد الدخول إلى ملكوت السماوات، فلندخله مع الإخوة، ولنسعى للدخول مع كل الإخوة. هذه هي ثورة المحبة، محبة الأعداء التي من الصعب أن يفهمها المنطق البشري. الشريعة اليهودية تتكلّم عن محبة القريب وبغض العدو، أما شريعة يسوع فهي محبة القريب والعدو، لأنهما متساويان أمام المحبة الإلهية، فيسوع مات عن الجميع وحمل خطايا الجميع، فكيف لا نحب من مات عنه يسوع كائن من كان.
لم ينظر الرب إلى الأبرص نظرة الشريعة إنما أشفق عليه وطهّره (مرقس1/41)، كذلك أشفق يسوع على الأرملة الباكية فأقام ابنها وسلّمه لها (لوقا7/17)، توجّعت نفسه واضطرب وبكى لموت لعازر (يوحنا11/33)... إن إلهنا ليس فكرة مجرّدة، إنه شخص يحب ويرحم ويحزن علينا، ويغفر لنا، فكيف لنا أن نطلب منه الغفران على خطايانا ونحن لا نغفر لإخوتنا؟ "أنت من أنت يا من تدين خادم غيرك فهو في عين الرب يثبت أو يسقط. وسيثبت لأن الرب قادر على أن يثبته" (رومة14/4). "فكيف يا هذا تدين أخاك؟ وكيف يا هذا تحتقر أخاك؟ نحن جميعاً سنقف أمام محكمة الله, والكتاب يقول:"حيّ أنا، يقول الرب، لي تنحني كل ركبة، وبحمد الله يسبّح كل لسان. وإذاً فكل واحد سيؤدي عن نفسه حساباً لله."(رومة14/10-12). "فلا نحكم بعضنا على بعض، بل الأولى أن تحكموا بألا يكون أحد حجر عثرة أو عائقاً لأخيه" (رومة14/13). "فعلينا نحن الأقوياء في الإيمان أن نتحمّل الضعفاء، ولا نطلب ما يرضي أنفسنا" (رومة15/1).فلنقبل بعضنا بعضاً لأن الله قبلنا جميعاً ولنتصرّف كل واحد حسب ضميره باحترام متبادل ومحبة، دون أن يفرض الواحد رأيه على الآخر. إن قوي الإيمان يعرف أنه تحرر من كل شيء أما الضعيف فيشعر أنه ما زال خاضعاً لهذا العالم. القوي والضعيف كلاهما خادمان لله والله وحده له الحق في أن يحكم على كليهما لأنه وحده يعرف خفايا القلوب.
فلنقتدِ بالمسيح الذي ليس مجرد قدوة وحسب بل هو الأخ الأكبر والرجاء الكبير الذي يدعو الجميع للمشاركة في حياته الإلهية وفي تمجيده للآب. فلننظر إلى إخوتنا الضعفاء على أنهم أعضاء متألمة في جسد المسيح، ولنطببها. إذا عانيت من ألمٍ في يدك أتبترها أم تعالجها وتهدر كل أموالك في سبيل إزالة الألم، فبالتالي أُبذل كل طاقتك في سبيل أخيك.
هذه هي قوة المحبة، قوة إلهية، تتخطى جميع الحواجز والمتاعب، تتحمّل جميع المصاعب، ترأف وترحم ولا ترى إلاّ الخير في ما صنعه الرب. وحين تشعر أيها المسيحي المؤمن بالظلم والقهر ردّد مع يوسف الذي أبغضوه إخوته وباعوه: " أنتم نويتم بي شرّاً، ولكن الله نوى بي خيراً" (تكوين50/20). إن الرب يستخرج الخير من أحلك الشرور، لأن الرب يستطيع ذلك.
**********
3- رسل المسيح: رسل المحبة.
" كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا20/21)
" أنا أرسلهم إلى العالم كما أرسلتني" (يوحنا17/18).
من هو الرسول؟
يعطي العهد الجديد لقب "رسول" لعديد من الشخصيات، أولاً: التلاميذ الإثني عشر، اختارهم يسوع لتأسيس الكنيسة (متى10/2، أعمال21/14)، ثم لبولس رسول الأمم (رومة11/13)، ونرى بولس يعطي اللقب نفسه الذي يحمله هو إلى سلوانس وثيموتاوس ، (1تسالونيكي2/7) وبرنابا(1قورنتس9/6). وبجانب بطرس والإثني عشر نرى يعقوب وجميع الرسل (1قورنتس15/5-7).
الرسول في اليونانية الفصحة APOSTOLOS مشتق من الفعل APOSTELLO أي يرسل، وهذا الفعل يعرّف عن مضمونه تماماً. الرسول هو مندوب رسمي يحمل رسائل رسمية (أعمال28/7-22) وتقتبس الكنيسة هذا العرف عندما ترسل إلى إنطاكيا وأورشليم، برنابا وسيلا ومعهما رسائل رسمية (أع15/22) أو عندما تجعل من برنابا وبولس مندوبيها (أع11/30، 13/3، 14/26، 15/1). وبحسب كلمة يسوع التي لها ما يماثلها من قبل في الأدب اليهودي، يمثّل الرسول من يرسله:" ما كان عبد أعظم من سيده، ولا كان رسول أعظم من مرسله" (يوحنا13/16). لذلك فإذا قدّرنا الأمر بما جرى عليه العرف في تلك الحقبة، لا يكون الرسول أولاً مرسَلاً ولا رجلاً يدفعه الروح ولا حتى شاهداً، إنما هو مبعوث ومندوب ومفوّض بمطلق الصلاحية، وسفير .(معجم اللاهوت الكتابي ص. 377).
الآب أرسل الإبن، والإبن أرسلنا، وبالتالي فنحن مندوبون ومفوّضون من المسيح ذاته لنشر رسالته في العالم أجمع. "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس، وعلموهم أن يعملوا كل ما أوصيتكم به، وها أنا معكم طوال الأيام حتى انقضاء الدهر." (متى28/19-20).
أوكل إلينا الرب يسوع هذه المهمة في العالم، وإذا ما قبلنا بها فنحن نمثّله على الأرض بحيث أننا رُسله. وكما ذكرنا سابقاً أن الرسول هو مندوب يحمل رسائل رسمية، بهذا المعنى نفهم مدى أهمية عملنا كمسيحيين مؤمنين بيسوع المسيح في هذا العالم.
-" علّموهم ما أوصيتكم به"، وكيف نعلّم الوصية إن لم نحفظها ونقتنع بها؟ وكيف نتمم هذه الوصية إن لم نَتّحد بمن أرسلنا، اتّحاد المحبة؟ أن نكون رسلاً للمسيح ليس بعملٍ سهل أو بسيط، إنما هو عمل شاق يتطلب منا الكثير من المحبة والجهاد والصبر والثبات في الإيمان. فإن قبلَنا الناس قبلوا يسوع، وإن لم يقبلوننا فهم لم يقبلوه. وإن لم نوصل هذه الرسالة بأمانة فنحن نشوّه صورة المسيح.
تلك هي وصية الرب:"أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا، فإذا أحببتم بعضكم بعضاً يعرف الناس أنكم تلاميذي"(يوحنا 12/34-35)." ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه"(يوحنا 15/13).
إذاً الوصية تتضمن ثلاث نقاط:- محبتنا بعضنا لبعض، - بذل ذواتنا من أجل أحبائنا كما فعل الرب من أجلنا، - وبمحبتنا بعضنا لبعض يعرف الناس أننا تلاميذ يسوع. بمعنى آخر يكفي أن نطبّق هذه الوصية فتصل الرسالة بأمانة إلى جميع الناس.
أساس الرسالة المسيحية ومحورها وهدفها هي المحبة المطلقة، المحبة المجانية بدون حساب، بدون تمييز بين شخص وآخر، إلى أي دين انتمى أو إلى أي عرق أو إلى أي جنسية، المطلوب هو المحبة المطلقة للجميع. أن نطبق وصية الرب، فهذا يتطلب منا حبّاً مطلقاً للرب وثقة عمياء لا حدّ لها به، فإذا أحببنا الرب حبّاً مطلقاً أحببنا الكل، فالمحبة التي يسكبها فينا الرب يسوع لا تتسع لها قلوبنا، نحن بحاجة لفيضها على الآخرين. المحبة التي تميّز ليست محبة، أو أقلّه ليست محبة الرب يسوع، فمحبتنا البشرية آنية، وربما تهدف لمصلحة معينة، أما محبة المسيح فهي محبة الله الذي لا يميّز ولا يحابي الوجوه.
لقد أعطانا الرب تعريفاً واضحاً للمحبة ؛ محبتنا بعضنا لبعض تتّخذ مثالاً لها حب المسيح لنا، وحبه لنا كان حتى الموت. كان باستطاعة الرب أن يتراجع لولا أحبنا أكثر من ذاته. لم يبخل بذاته علينا، فعلينا بدورنا ألا نبخل بذواتنا، فلنتحلّ بالسخاء، دون حساب ودون مقابل.
أن نذهب ونتلمذ جميع الأمم، هو أن نحبهم أولاً، وإلا لن ينفع التعليم ولن يلمسوا يسوع. هو أن نعيش المحبة ثانياً، ففي عيشنا للمحبة يعرفنا الناس أننا تلاميذ يسوع، دون الحاجة الدائمة إلى الوعظ. يسوع لم يأت مشَرِّعاً لدستور جديد مليء بالمواد التشريعية، يسوع عاش في هذا العالم وتعامل معه وتعليمه عيش حقيقي لرسالته.
هو أحبنا أولاً، " فاختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة"، (أفسس1/4). ونقرأ في( أفسس 1/15) " سمعت بإيمانكم بالرب يسوع وبمحبتكم لجميع القديسين، فهذا الإيمان نعبّر عنه في المحبة". كما نقرأ في (أفسس3/17) " تأصلتم في المحبة وتأسستم عليها. نحن أمام شجرة قوية تجد جذورها في المحبة، نحن أمام بناء شاهق يجد أساسه في المحبة . " أعلنوا الحقيقة في المحبة(أفسس 4/15).
هكذا نعلن الرسالة ، بالمحبة.
وإذا كان نشر الرسالة يتطلب المحبة، فهو يتطلب بشكل متساوٍ، الخدمة. نحن لسنا بأعظم ممن أرسلنا، ومن أرسلنا غسل أرجلنا. علمنا الرب ويعلمنا باستمرار أنه إذا ما أردنا أن نكون أولون ، فعلينا بالخدمة المُحبّة. "فليحسبنا الناس خدّاماً للمسيح ووكلاء أسرار الله"(1قورنتس4/1). من أحب المسيح، صار خادماً له في إخوته الصغار، "كل ما عملتموه لإخوتي هؤلاء الصغار، لي أيضاً عملتموه" (متى25/40). لا خدمة دون محبة ولا محبة دون خدمة. وحين نتحدث عن الخدمة لا يمكننا إلا أن نذكر الطوباوية "الأم تيريزا " التي كانت في خدمة الفقراء والمعوزين والمرضى. ومن أهم أقوالها:"إن أردنا أن يملأنا الله منه، علينا أن نفرغ ذاتنا من الأنانية بالتواضع." "دعونا لا نستعمل القنابل والأسلحة للسيطرة على العالم. بل لنستعمل المحبة والعطف والحنان". "الفقراء هم عظماء! علينا أن نحبهم ليس بالشفقة عليهم بل لأنهم يُخفون يسوع المحتاج." " في الجنة وحدها سندرك كم نحن مدينون للفقراء لأنهم ساعدونا على محبة الله أكثر."
خدمتنا للإخوة تتجلّى ببذل ذواتنا من أجلهم، كما صنع الرب يسوع من أجلنا وهو ربنا ومعلّمنا. " إن ابن البشر لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليفدي بنفسه" (مرقس1/45)." فأنا بينكم في وضع الذي يَخدم"(لوقا22/27).
رسل المسيح هم خدّام المسيح وهم خدّام الكلمة، وهم الذين يعلنون الإنجيل فيقومون هكذا بخدمة مقدّسة (رومة15/16، كولوسي1/23، فيلبي2/22). ومن جهة أخرى فقد انتقل جميع المسيحيين بالمعمودية من خدمة الخطيئة والشريعة التي كانت عبودية إلى خدمة البر والمسيح التي هي الحرية. فالمسيحيون يخدمون المسيح كابناء وليس كعبيد، لأنهم يخدمون في نظام الروح الجديد( رومة7/6).
نحن رسل المسيح إذن نحن رسل المحبة، فبالمحبة وحدها خلص الجميع، وبالمحبة وحدها نبشّر بالخلاص إلى الجميع. بالمحبة وحدها نملك القلوب ونفتح جميع الأبواب أمام الرب يسوع. المحبة هي أعظم الفضائل الإلهية، يقول القديس بولس، ألإيمان والرجاء والمحبة ، وأعظم هذه الثلاثة، المحبة. (1قورنتس13/14). هي وحدها تبقى ، فالإيمان سينتهي حين نعاين الرب وجهاً لوجه، والرجاء ينتهي، وستكون معرفتنا كاملة كمعرفة الله لنا ، تبقى وحدها المحبة ولا تنتهي.
"إذهبوا وتلمذوا وعمدوا جميع الأمم باسم الآب والإبن والروح القدس"، عمّدوهم باسم المحبة وتلمذوهم باسم المحبة لأن الله محبة. " أنا أحبكم مثلما أحبني الآب، فاثبتوا في محبتي"(يوحنا15/9). الآب يحب الإبن، والإبن يحب الآب، والروح الحق يشهد لهذه المحبة.
خاتمة.
المحبة!!!. هذا ما ينتظره منا المسيح، ولا شيء سوى المحبة. إنها الوصية الوحيدة, إنها الشريعة الوحيدة، وهي العمل الوحيد والمتعدد لكل إيمان. تأتي المحبة من عند الله وتحل فينا بمجرّد أن يتخذنا كأبناء له، وهي إذ تأتي من عند الله، تعود إليه، لأننا عندما نحب إخواننا نحب الرب نفسه، إذ كلنا معاً نكون جسد المسيح، وهكذا نستطيع أن نتجاوب مع المحبة التي سبق وأحبنا بها الله.
هذا هو مطلب المسيح الأساسي، أن نحب بعضنا بعضاً كما أحبنا. ويواصل المسيح عمل حبِّه من خلال أعمالنا، فنحن في شركة تامة ، يلتزم فيها كل واحد منا بكل ما فيه من طاقة المحبة والإيمان. وهذه هي صلاة يسوع:" لتكن فيهم المحبة التي إياها أحببتني فأكون فيهم". وإذ نحيا هذه المحبة الأخوية في عالم لا ننتمي إليه، تستطيع أن تكون محبتنا هذه شهادةً نثبت للعالم من خلالها أن يسوع هو المرسَل حقاً من الآب.
هلمّوا نرتوي من ينبوع المحبة، يسوع المسيح،
هلمّوا نَروي ظمأنا ونسقي كل عطشان
هلمّوا نأكل من الخبز الناّزل من السماء، خبز المحبة الذي لا يفنى، فنشبع ونطعم الجياع
هلمّوا نقترب من شجرة الحياة ونأكل من ثمارها الحيّة ، ولا نقتربنّ من شجرة معرفة الخير والشر كي لا نضَلَّل ونخسر المحبة الإلهية.
**********