القديس انطونيوس الكبير
كان أنطونيوس مصرياً، وأهله من أعيان البلد، وذوي ممتلكات عديدة، وكانوا مسيحيين فتربى تربية مسيحية، وشبَّ منذ صغره على محبة الله مريداً أن يقيم في بيته كإنسان بسيط متجنباً معاشرة الآخرين، غير أنه لم يتهاون في الذهاب إلى الكنيسة، بعد موت أبيه بقي أنطونيوس وحيداً مع أخته الصغيرة جداً، فاهتم بالبيت وبأخته، على حين سمع نداء الرب في الكنيسة بلسان الكاهن عندما كان يقرأ الإنجيل: "إن أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبع كل ما تملكه، ووزع ثمنه على الفقراء فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني" (متى 21:19)، فأحس أنطونيوس وكأن هذا المقطع الإنجيلي قد خصه هو وحده، فللحال خرج من الكنيسة ووهب كل الممتلكات التي ورثها من والديه إلى أبناء قريته وخاصة الفقراء، محتفظاً بالقليل لأخته.
عندما قرر التفرغ للنسك، أسكن أخته في بيت للعذارى لتتربى فيه، وذهب يتنقل من ناسك إلى ناسك ليستزيد خبرة روحية، فتعرَّض عدة مرات لهجومات متنوعة من الشيطان الذي كان يحاول خداعه، لكنه لم يفلح أمام عزم أنطونيوس للسلوك في طريق الملكوت، فكان يقسو على جسده ويستعبده أكثر فأكثر خوفاً من أن يقع في خطيئة ما، بينما انتصر في أخرى، وأراد أن يمارس النسك القاسي، وقد تحمَّل التعب بسهولة لأن نشاط نفسه قد قوّى هذه الفضيلة في ذاته، حتى انه إذا تلقى توجيهاً صغيراً من الآخرين أظهر له حماساً كبيراً.
كثيراً ما كان يقضي الليل ساهراً، وكان يأكل مرة واحدة في النهار بعد غروب الشمس، وتارة كل يومين وأحياناً كثيرة مرة كل أربعة أيام، وكان طعامه خبزاً وملحاً، وشرابه الماء وحده، وكان يكتفي ببساط للنوم وفي أغلب الحيان كان ينام على الأرض.
بعد عشرين سنة من حياة العزلة، خرج انطونيوس من صومعته تلبية لطلب الرهبان الذين كانوا يأتونه للاسترشاد الروحي، وقد تحولت الصحراء إلى مدينة يقطنها الرهبان، والأديار أصبحت مساكن مملوءة بالأجواق الإلهية التي ترتل وتنشد كلمة الله، وتصوم وتصلي، وتفرح برجاء الخيرات الآتية، وتجاهد في الإحسان، وقد سادت بينها المحبة والتآلف.
وفي أيام اضطهاد مكسيميانوس، ترك أنطونيوس الصحراء إلى الإسكندرية ليخدم المعترفين بالإيمان في السجون والمناجم، ويشدد غيرتهم في المحكمة، كما كان يقبل الشهداء ويرافقهم حتى يقضوا نحبهم، والجدير بالذكر أنه كان يتوق للاستشهاد، وقد حزن كثيراً لأنه لم يستشهد، إلا أن الرب صانه من أجل منفعة الرهبان ومنفعتنا جميعاً حتى يكون أباً ومعلماً للنساك والرهبان.
ترك أنطونيوس الدير مرة أخرى ليشدد المؤمنين في المدينة مزدرياً وداحضاً هرطقة آريوس، ومعلماً الشعب أن المسيح هو ابن الله، وليس مخلوقاً، ولم يُخلق من العدم، بل هو الكلمة الأزلية لجوهر الله وحكمته.
كان أنطونيوس رجلاً ذكياً وحكيماً، ومع أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، فقد حاور الفلاسفة الذين جاؤوا إليه ليجربوه طالبين منه كلمة في الإيمان بالمسيح، إلا أنهم عادوا مندهشين ومعترفين بأنهم قد نالوا فوائد كثيرة من هذا الرجل القديس.
صنع أنطونيوس عجائب كثيرة، لكنه لم يشفِ المرضى بأمره بل بصلاته ودعائه للمسيح ليظهر للجميع أن الرب وحده هو طبيب النفوس والأجساد، وقد شفى المسيحُ الناس بواسطة أنطونيوس الذي اعتبر كأنه الطبيب الوحيد الذي وهبه الله إلى مصر.
عاد أنطونيوس على الصحراء الداخلية حيث اعتاد الإقامة فيها، وقد مرض مرضاً شديداً بسبب تقدمه بالسن، إذ عاش /104/ سنين، وغدا قدوة في الفضيلة والإيمان، ونموذجاً للمتوحدين، وفي شيخوخته خدمه ناسكان كانا قد نسكا معه /15/ سنة، فأوصاهما أن يدفناه تحت التراب، وأن لا يُعلِما أحداً عن موضعه، تعيّد له الكنيسة في 17/كانون الثاني من كل سنة وهو ذكرى انتقاله إلى الأخدار السماوية، فبشفاعاته اللهم ارحمنا وخلصنا، آميــن.
من أقواله:
"ضع مخافة الرب نصب عينيك دائماً، وتذكر ذاك الذي يميت ويحيي".
"ابغضوا العالم وكل ما في العالم، وامقتوا كل راحة جسدية، وازهدوا في هذه الحياة لتحيوا لله، وتذكروا وعدكم له إذ إنه سيطالبكم به يوم الدين، وكابدوا الجوع والعطش والعري والأسهار، نوحوا وابكوا من قلوبكم، امتحنوا أنفسكم هل أنتم أهل لله؟..تهاونوا بأجسادكم لتخلصوا أنفسكم".
"رأيتُ فخاخ العدو منبثقة في الأرض كلها، فقلتُ متنهداً: ترى من يسلم منها؟..فسمعت صوتاً يجيب: المتواضعون".