أنطونيوس ــ قدّيس الصحـــراء
المهندس جورج فارس رباحية
إن للقديسين رسالة خاصة للحياة وقد نجح الكثيرون منهم وتساموا بكيانهم إلى الوجود الإنساني في الأعلى . وقد سُئل أحد الكتّاب مرة مافائدة القديسين ؟ فأجاب : إنهم بهجة الروح
ومن الأشخاص الذين اثروا على العالم القديس أنطونيوس الذي عاش في الصحراء ولقّب بكوكب البريّة وأبو الرهبان فقد أنار الطريق لحياة النسك في المدة الطويلة التي عاشها فـي عزلة الصحـــراء .
وُلد القديس أنطونيوس في قرية ( قمن ) بصعيد مصر عام 251من أسرة عريقة غنية ومن أبوين صالحين ربياه على مخافة الله . واقتبس منهما حميد الخصال .
توفي والده وهو في العشرين من عمره تاركاً له ثروة طائلة . فعكف بعد موت أبيه على إدارة أملاكه . وحدث مرة أن دخل الكنيسة فسمع الكاهن يقرأ قول السيد المسيح (( إن اردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ))
(متى 21:19) .
وعلى الأثر نفّذ أنطونيوس ذلك حرفياً فباع املاكه ووزّع كل ماكان يقتنيه على المساكين والفقراء وذهب إلى البريّة متخلّصاً من كل شقاء العالم . وكان يمشي طول النهار وعند غروب الشمس يستلقي على الأرض لينام مفترشاً الحصير ومرتدياً المسوح (1) ولا يحمل غير العصا وبعض الماء والخبز الجاف والملح . وحاول إبليس إغراءه بمختلف الوسائل لكنه غلبه بالصلاة والصبر والرجــــاء .
وانتشرت أخبار صلاحه وتقواه في وادي النيل فهرعت الجماهير إليه تطلب البركة والشفاء على يديه, وسار وراءه خلق كبير أخذوا عنه الطريق في التعبّد والإنعزال .
وهكذا عاش القديس أنطونيوس سنين طويلة عاكفاً على الصوم والصلاة ومجاهداً ضد المبتدعين ومثبّتاً المؤمنين وهادياً جميع الآتين إليه في سبيل السلام .
وخرج أبو الرهبان مرتين من عزلته . الأولى عام 313 عندما ذهب إلى الإسكندرية ليعزّي المُضطهدين بعهد الامبراطور الروماني على الشرق مكسيمنوس 2ً (305ـ 318)
الذي اضطهد المسيحيين . حيث قال انطونيوس لأذهبن إليها حيث نيران العذاب ,وإذا سمحت النعمة الآلهية باستشهادي فأنا مستعدّ لذلك وإن لم تسمح بذلك أكون على اقل تقدير واقفــاً
بجانب المضطهديـــــن .
وظهر في المرةّ الثانية عام 351 يوم قَدِمَ ليعضد بطريرك الإسكندرية أثناسيوس (2) في كفاحه ضد عناصر الإلحاد . وعندما زار الكاتدرائية احتشدت الجماهير لتراه , وحضر الصلاة واشتركت الجماهير معه في القداس الإلهي . وبعد الانتهاء من الزيارة تأهّب للعودة إلى الصحراء , فطلب منه حاكم المدينة البقاء معهم . فأجابه : إن السمك إذا بقي على الأرض وبعيداً عن الماء يموت وهكذا الحال مع النسّاك . ثم رافقه البطريرك إلى خارج المدينة وعندما ودّعه خلع عليه عباءته ليأخذها معه إلى الصحراء .
إن الذين زاروه في غاره المظلم وهو في المئة من عمره رأوا فيه نوراً يشعّ من وجهه إنه نور القَداسة والطهارة الذي يبطن في داخله قلباً طاهراً ونقياً .
وهكذا نضجت حكاية هذا القديس في الصحراء , وعندما شعر كوكب البرية بدنوّ أجله , جاء النسّاك الذين انتشروا في أطراف الصحراء ليودّعوه الوداع الأخير فسار بينهم وهو يباركهم ثم انسحب من بينهم ودخل مغارته وخرّ مصلباً وهو يقول : الله يدعوني .
وانتقل هذا القديس الكبير إلى الحياة الأخرى وطلب بأن يُدفن في مكان لايعرفه أحـــد .
وأوصى بأن لاتظهر أية علامة تشير إلى مكان رقاده , وكان جلّ قصده إن يجعل جسده يختص بالأرض لابالناس .
وهكذا برح أرضنا الفانية في 17 كانون الثاني عام 356 . إلى مساكن النور وهو في الخامسة بعد المئة من عمره بعد أن قضى 85 عاما متنسّكاً في الصحــراء ( بصعيد مصر)
ولازالت مصر تذكره بفضائله الجمّة وبحياته العجيبة .
ويقوم دير يحمل إسمه على مقربة من البحر الأحمر في البقعة التي توفي فيها , وإلى جانب الدير توجد مغارة طبيعية قائمة على تل صخري ـ هي المغارة التي قضى قديس الصحراء معظم حياته فيها .
حمص 17/1/2005 المهندس جورج فارس رباحية
المفردات :
(1) المسوح : ما يُلبَس من نسيج الشَعر على البدن تقشّفاً وقهراً للجسد .
(2) أثناسيوس الإسكندري ( 295 ـ 373 ) بطريرك الإسكندرية كتب حياة القديس أنطونيوس ومؤلفاته اللاهوتية .
المصادر :
ـ السواعي الكبير1886
ـ مجلة النعمة 1963
ـ الكتاب المقدس 1951
ـ المنجد في اللغة والاعلام 1973