الدعوة إلى عقد المجمع : (325) دعا قسطنطين جميع الأساقفة من جميع أنحاء الإمبراطورية إلى التشاور وتبادل الرأي. وعيّن مكان الاجتماع نيقية لا في أنقيرة -كما اقترح المجمع الأنطاكي-. ورأى أن تبديل المكان ضروري لأسباب منها أن مناخ نيقية ألطف من مناخ أنقيرة، وأن نيقية أقرب إلى نيقوميذية مقر حكمه، وإن الوصول إليها أسهل على أساقفة الغرب من الوصول إلى أنقيرة. وقد يكون السبب في طلب المجمع الأنطاكي بتعيين أنقيرة مكاناً للمجمع لكونها مركز أنطاكي كنسي قريب من أنطاكية، وشهرة أسقفها مركلوس بصموده العنيف في وجه آريوس وأتباعه.
ممثلي الكنائس :مثّل الكنائس عدد غفير من الأساقفة من: سورية وقيلقية وفينيقية والعربية ومصر وليبية وما بين النهرين واسكيشية والبونط وغلاطية وبمفيلية وقبدوقية وفريجية وتراقية ومقدونية وآخية وابيروس وايطاليا وغالية واسبانية وإفريقيا الشمالية. وبالنسبة لعدد الأساقفة المجتمعين فهناك عدة روايات، منها رواية افستاثيوس أسقف أنطاكية بأنهم مئتان وسبعون، وثلاث مئة في رواية أثناثيوس الإسكندري، وبعد سنة 360 كُتب أن عددهم 318. وهذا الرقم هو الرقم المعتمد عن الدارسين ورجال الاختصاص.
ولم يستطع سيليفستروس أسقف رومة الحضور لشيخوخته فناب عنه قسيسان رومانيان وأسقف كلابرية.
التآم المجمع: اجتمع الآباء الأجلاء في اليوم العشرين من أيار من سنة 325 في بهو كبير في البلاط وجلسوا في الأماكن المخصصة لهم إلى اليمين وإلى اليسار. وباتوا ينتظرون وصول الامبراطور. ولما وصل وقفوا منتصبين احتراماً واجلالاً. فرفض قسطنطين الجلوس قبل الأساقفة.
رئاسة المجمع: تختلف الروايات في من رئس المجمع. فالكاتب الذي رتب فصول كتاب افسابيوس في حياة قسطنطين يرى أن أفسابيوس نفسه ترأس المجمع. ويخيل للقارئ أن القديس أثناثيوس أراد أن يقول أن هوسيوس أسقف قرطبة تبوأ المركز الأول. ولكن ثيودوريطس المؤرخ يعطي الرئاسة لافستاثيوس أسقف أنطاكية. وهذا القول هو أقرب إلى الحقيقة، لأن أسقف روما اعتذر عن الحضور، وأسقف الاسكندرية كان أحد الخصمين، فكان أسقف أنطاكية هو أكثر الأساقفة المجتمعين أهميةُ. بيد أن لا بد من الإشارة إلى أن اسم هوسيوس جاء في طليعة اسم الموقّعين.
افتتاح المجمع: توسط الأمبراطور مجلس الآباء على كرسي من ذهب. ونهض رئيس المجمع فشكر الامبراطور وعنايته بالكنيسة. فرد الامبراطور عليه شاكراً "لملك الكون" نعمه الكثيرة ولا سيما تلك التي أتاحت له أن يرى الأساقفة مجتمعين بفكر واحد وقلب واحد. وذكر بعد ذلك أنه بقدرة "الملك المخلص" تمكن من القضاء على الطغاة الذين قاوموا الله. وأكّد أنه يعتبر كل شغب في داخل الكنيسة مساوياً في الخطر لحرب كاملة.
ونُقل خطاب الأمبراطور من اللاتينية إلى اليونانية وشرع الآباء فور الانتهاء من الترجمة إلى بحث القضايا الماثلة. ويقول أفسابيوس المؤرخ أن الأمبراطور تدخل مراراً لإقرار السلم والوفاق.
{اول ما يَلفت نظر الباحثين هو أن علامات الاضطهادات – التي هدأت – كانت ظاهرة جليا على أجساد معظم الآباء الذين أتو من كنائس العالم ليشهدوا للمسيح الحي والغالب على الدوام. فأعضاؤهم المشوّهة او المبتورة وآثار الجروح والضرب والجلدات شهادة على أن الإيمان الح الذي دونوه في نيقية كان محفوظا في قلوبهم وعقولهم ومكتوبا على صبر أجسادهم. ولا يخفى على احد أن هذه الآلام بقيت – وسوف تبقى – رفيقة القدّيسين الشاهدين، ولعل أبرز شهادة عليها هي أن الشماس اثناسيوس، الذي رافق الاسقف ألكسندروس الاسكندري الى المجمع فكان بطل نيقية، نُفي بعد تَرأسه سدة البطريركية في الاسكندرية خمس مرات، وبقي خارج كنيسته ما يزيد على العشرين سنة}. (عن نشرة رعيتي)
بحث بدعة آريوس: بدء الآباء في بحثهم واستمعوا إلى بعض ما جاء في كتابه "الثالية" فسدّوا آدانهم نافرين. وشرح آريوس إيمانه مرتكزاً على فلسفة أفلوطين وتفسيره للآيات الكتابية. وبأسلوب مقنع وببلاغة. إلا أن بفضل الكسندروس وشماسه أثناثيوس الذي كان يعمل بطريقة غير مباشرة، إذ لم يكن يحق له التدخل في النزاع ولا حتى إبداء الرأي، فلذلك كان يعمل خلف أسقفه فيهيئ له القرارات ويساهم في نصها، ويحصح أخطاءها بتواضع، حتى أضحى روح المجمع والآلة التي تُدير المناقشات. فأيّد آريوس من وراء الستار عشرون أسقفاً، أشهرهم: أفسابيوس أسقف نيقوميذية وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين وثيودوتوس أسقف اللاذقية وأثناثيوس أسقف عين زربة وغريغوريس أسقف بيروت. ولكن الجميع اعترفوا بأن ابن الله هو إله حقّ واختلفوا في تفسير هذا الكلام وتحديده.
الآباء في المجمع استخدموا كلمة "HOMO-OUSIOS"، وتعني مساوٍ في الجوهر وبتعبير أدق من له ذات الجوهر. أما آريوس فقد أصر على استخدام كلمة "HOMOI-OUSIOS"، والتي تعني مشابه في الجوهر. الفرق الكتابي هو حرف واحد ولكن المعنى مختلف بالكلية.
وقال بعض الآباء بوجوب الاكتفاء بتعبير الآباء السابقين، وقال آخرون بوجوب التدقيق في قول الآباء وتحديد التعبير. فانتهر افسابيوس أسقف قيصرية فلسطين هذه الفرصة فعرض قانون إيمان كان يتلى في كنيسته عند ممارسة سر المعمودية وترجى قبوله والموافقة عليه. ولكن الآباء أبوا أن يقبلوه كما كان فأدخلوا عليه بعض العبارات للضبط والتوضيح. فأوجبوا القول بأن ابن الله مولود من جوهر الآب وأنه إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر "HOMO-OUSIOS". ويرى بعض رجال الاختصاص أن هوسيوس هو من اقترح ادخال العبارة "مساوٍ للآب في الجوهر" فأيدّه في ذلك كل من أفستاثيوس أسقف أنطاكية وماركلوس أسقف أنقيرة.
{إصطلاح "هومووسيوس" (مساوٍ للآب في الجوهر) سبب جدلا كبيرا داخل المجمع وخارجه، لأن أصحاب الرأي المشؤوم ومَنْ انقاد الى ريائهم قالوا بأن العبارة غير كتابية، واتّهموا الآباء بالوقوع ببدعة ساباليوس (الذي اعتقد بإله واحد ذات أشكال ثلاثة)، وذلك لأن عبارة "هومووسيوس" – في العالم اليوناني – كانت تفيد "الكيان الواحد". الافلاطونية الحديثة والغنوصية (العرفانية) في القرن الثالث استعملتا اللفظة للدلالة على الكائن العاقل او الشخص. بيد أن آباء المجمع الذين دحضوا "شكلانية" صاباليوس (اي الاعتقاد بإله واحد ذات أشكال ثلاثة)، والذين هم، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي، من أتباع طريق الصيادين – الرسل وليس طريقة الفلاسفة، سَمَوا فوق الفلسلة البشرية وجميع مناهجها، فعمّدوا لفظة هومووسيوس اي أنهم أعطوها معنى مسيحيا مؤكدين أنها وإن لم توجد حرفيا في الكتاب المقدس الا أنها مستوحاة معنويا منه. وقد ورد في مجموعة الشرع الكنسي (ص 45) أن القديس إيريناوس أسقف ليون استعمله اربع مرات، كما أن الشهيد بمفيليوس روى أن اوريجانس المعلم استعمله ايضا بالمعنى ذاته الذي اراده له المجمع النيقاوي. مما قاله آباء المجمع:"بما أن الابن هو من جوهر الآب، فالابن إله كما أن الآب إله، وتاليا يجب القول إن المسيح هو من الجوهر الواحد مع الآب.} (عن نشرة رعيتي).
ووافق قسطنطين على رأي الأكثرية الساحقة فجاء نص قانون الإيمان النيقاوي كما يلي:
أؤمن بإله واحد آبٍ ضابط الكل خالق كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد مولود من الآب أي من جوهر الآب إله من إله نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر الذي به كان كل شيء ما في السماء وما على الأرض الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وتأنس وتألم وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وسيجيء ليدين الأحياء والأموات وبالروح القدس.
وألحق الآباء بهذا القانون العبارات التالية: "أما أولئك الذين يقولون أنه كان زمن لم يكن فيه وأنه لم يكن قبل أن يولد وأنه صار من العدم ومن أقنوم آخر وجوهر آخر وأن ابن الله مخلوق ومتغير ومتحول فهؤلاء جميعاً تفرزهم الكنيسة". وحرم الآباء آريوس وأتباعه فأيدهم قسطنطين في ذلك وحكم على آريوس بالإبعاد والنفي.
مشكلة عيد الفصح : ثم نظر المجمع في أمر عيد الفصح. فإن كنيسة أنطاكية كانت تجاري اليهود في حسابهم لتعيين الرابع عشر من نيسان وبالتالي اليوم الذي يقع فيه عيد الفصح. وكانت السنة اليهودية تتألف من اثني عشر شهراً قمرياً في السنين البسيطة ومن ثلاثة عشر شهراً في السنين الإضافية. وكانت سنتهم الإضافية تعود سبع مرات في مدة تسعة عشر عاماً. وكانوا يزيدون في هذه السنوات الإضافية "أمبوليسمية" شهراً آخر مؤلفاً من تسعة وعشرين يوماً يسمونه "وآذار" أي آذار الثاني لتقريب السنة القمرية من السنة الشمسية. وكانت كنيسة الإسكندرية قد غضت النظر عن حساب اليهود واتخذت لنفسها قاعدة خاصة جعلت عيد الفصح يقع بعد أول بدر بعد اعتدال الربيع في الحادي والعشرين من آذار. ونتج عن تشبث كل من الكنيستين الشرقيتين بطريقتها الخاصة فرق في موعد عيد الفصح. فقد يسبق عيد الفصح الأنطاكي العيد الاسكندري بشهر كامل. وبعد أن أصغى الجميع إلى حجج الفريقين أقروا بوجوب الاحتفال بهذا العيد العظيم في يوم واحد في جميع الكنائس وأوجبوا اتباع قاعدة الاسكندرية ورومة. وتم تعيين بطريرك الإسكندرية ليكون مسؤولا عن تحديد التاريخ وإعلانه لبقية البطاركة.
هنا يرى بعض المؤرخون أن تكليف كنيسة الإسكندرية بتحديد موعد عيد الفصح عائد إلى علو مرتبتها وتسلطها على باقي الكنائس. فيما يرى الآخرون "الموضوعيون" أن هذا الأمر كان عائد إلى أن الإسكندرية كانت عاصمة علم الفلك ولذلك تم تكليف كنيستها بهذا العمل وليس هو نوعاً من العلو عن باقي الكراسي.
معمودية الهراطقة والجاحدين: قرر المجمع عدم الاعتراف بمعمودية من عمدهم الهراطقة لأنهم لا يؤمنون بالثالوث. أما بالنسبة للمعمدين صحيحا وانجرفوا وراء إحدى الهرطقات فعند عودتهم للكنيسة لا تعاد معموديتهم.
قوانين المجمع: وسن المجمع عشرين قانوناً لنظام الكنيسة فقضى القانون الثامن بقبول النوفاتيين في الكنيسة الجامعة شرط أن يعترفوا كتابةً بعقيدة الكنيسة وأن يشاركوا ذوي الزيجة الثانية والساقطين في الاضطهاد. وقضى هذا القانون نفسه بالاعتراف برسامة هؤلاء وبأسقفية أساقفتهم الرسمية إذا رضي بذلك أسقف الأبرشية الأرثوذكسي. وأجاز القانون التاسع عشر عودة أتباع بولس السميساطي إلى حضن الكنيسة شرط اعتمادهم ثانية وأوجب الاعتراف برسامة هؤلاء فور الانتهاء من تعميدهم.
وأوجب القانون الأول قطع الاكليريكي الذي يجبُّ نفسه وعدم انتداب أي علماني لممارسة الكهنوت ما لم يكن قد جبّه الأطباء لمرض وشوهه المضطهدون. ومنع القانون الثاني قبول الحديثين في الإيمان في مصاف الاكليريكيين. وقضى التاسع والعاشر برفض الكهنة الذي رسموا بغير فحص وخلافاً للقانون وبقطع الذين جحدوا الإيمان ورسموا دون أن يعرف بذلك راسموهم.
وبحث في القانويني الثالث والثالث عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر في تصرفات رجال الاكليروس. فقضى الثالث ألا يساكن الأسقف والقسيس والشماس امرأة غير والدته وشقيقته وخالته وعمته ومن لا تدور حولها أي شبهة. وأوجب الثالث عشر مناولة الذين يطلبون القربان المقدس وهم في حالة الاحتضار ومنع الخامس عشر والسادس عشر الإكليروس من مغادرة كنائسهم والانتقال إلى كنيسة أخرى وأوجب بطلان الرسامة التي يقلدها أسقف شخصياً من كنيسة أخرى دون موافقة أسقفها. ومنع السابع عشر الاكليروس عن الاتجار بالمال بالربى. وحرّم الثامن عشر جلوس الشمامسة بين الكهنة وتقديم القربان لهم.
وحضَّ القانون الرابع على اشتراك جميع أساقفة الأبرشية في سيامة أسقف من الأساقفة وأجاز سيامته من ثلاثة معاً بعد موافقة الغائبين وأوجب موافقة المتروبوليت وتصديقه. وقضى القانون الخامس عدم قبول الممنوعين من الشركة في الأبرشية الواحدة في شركة أبرشية أخرى لهذه المناسبة التآم أساقفة الأبرشية في مجمع محلي مرتين في كل سنة في الربيع وفي الخريف.
وجاء في القانون السادس"بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمسة لأسقف الإسكندرية لأن هذه العادة مرعية الإجراء للأسقف الذي في رومة أيضاًَ. وعلى غرار ذلك فليحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى". وجاء في القانون السابع: "إنه جرت العادة والتسليم أن يكون الأسقف الذي في آلية أي أورشليم ذا كرامة. فلتكن له المتبوعية في الكرامة".
ملاحظة : لم يأتِ المجمع على ذكر القسطنطينية لأنها لم تكن قد دُشنت رسمياً كعاصمة إلا بعد خمسة أعوام على عقد المجمع.
نقلاًعن "الكنيسة الأرثوذكسية في الماضي والحاضر، الجزء الثاني" لـ "كاليستوس وير")
اختتام المجمع: ختم المجمع أعماله في التاسع عشر من حزيران سنة 325. ووافق هذا التاريخ وكاد يوافق إكمال السنة العشرين لتسلم قسطنطين الحكم، فدعا الأساقفة إلى مأدبة كبيرة في قصره ثم حضر حفلة الختام وألقى فيها كلمة خص بها الأساقفة على التفاهم والسلم والمحبة وعلى التعاضد في نشر الإيمان بين الوثنيين. وقدَّم لهم الهدايا وأمر بتوزيع الحنطة على الكنائس لسد رمق الفقراء والمساكين.
منقول عن http://web.orthodoxonlin