”ثم سمعت صوتًا من السّماء يقول: اكتب: هنيئًا للأموات الّذين يموتون منذ الآن في الرّب! فيجيب الروح: نعم، فيستريحون من متاعبهم، لأن أعمالهم تتبعهم“. (رؤ-14-13).
نسرد هنا سيرة ثلاثة شهداء جدد من دير أوبتينا في روسيا الوسطى، قَتَلهم عابدٌ للشياطين ليلة الفصح من العام 1993. الشهداء هم الرّاهب الكاهن فاسيلي (روسلياكوف) والرّاهب تروفيم (تاتارينوف) والرّاهب فيرابونت (Ferapont) (بوشكاريف).
في تلك السّنة، جرت خدمة الفصح كالعادة. أُقيم زياحٌ من الدّير إلى إسقيط القدّيس يوحنّا المعمدان شرقي الديّر. وقد سُمع دق الأجراس من جراسيّتي الدّير والإسقيط. اجتمع، في ذلك اليوم، عدد كبيرٌ من المؤمنين (حوالي العشرة الآلاف بحسب تقرير الشرطة الّتي كانت تقوم بحراسة الدّير أثناء الإحتفالات).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]شهداء أوبتينا: الرّاهب فيرابونت والرّاهب الكاهن فاسيلي والرّاهب تروفيم
بعد القدّاس الإلهي توجّه الرّهبان إلى المائدة لتناول فطور الفصح. بعد ٱنتهاء الوجبة، توجّه الرّاهبان فيرابونت وتروفيم لاستكمال دق الأجراس. كانت السّاعة السّادسة وعشرة دقائق صباحًا. فجأة، أصبح رنين الأجراس غير منتظم، ثم توقف كليًّا. كانت قد ارتكبت جريمة فظيعة عند الجرسية وأُصيب الرّاهبان بطعنات سكين في الظهر وهما يدقّان الأجراس. على الأثر رقد الرّاهب فيرابونت. أما الرّاهب تروفيم فبقي على قيد الحياة، وتمَّ نقله إلى الكاتدرائية حيث رقد بعد ذلك بقليل. وقد سُمع يقول: ”يا رب ارحمنا!“ و”النجدة“!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]صورة من الدّفن
ٱنتقل المجرم إلى الإسقيط، حيث طَعن الرّاهب الكاهن فاسيلي بالظهر وهو في طريقه إلى الكنيسة لقبول الاعترافات. ورغم جرحه البليغ بقي على قيد الحياة أكثر من أخويه. نظر إلى النّاس المحيطين به وحاول الوقوف. نُقل إلى الكاتدرائية ووُضع أمام رفات القدّيس أمبروسيوس، ثم نُقل إلى المستشفى، حيث ما لبث أن فارق الحياة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]صورة أخرى من الدفن
بعد ذلك تسلّق المجرم سور الدير مخلّفًا وراءه سكّينه المدمّى. كان خنجرًا ذا طرفين، عرضه 5 سنتمرات، ويشبه السّيف. حُفر عليه الرقم "666" و"الشيطان". الكتابة عينها وجدت على سكين آخر في جيب المعطف الّذي خلّفه المجرم. إسم هذا المجرم بحسب المحقّقين هو ”نيقولاي أفيرين“. وقد طعن الضحايا بالظهر بشكل محترف بحيث لم تكن الطعنة عميقة لجعل الضحية ينزف حتّى الموت لوقت طويل. هذا ما حصل للرّاهب فاسيلي بينما رقد الرّاهبان تروفيم وفيرابونت على الفور. بعد ارتكابه الجريمة رفع أفيرين جُبب الرّهبان وغطى بها رؤوسهم ووضع سكوفياتهم* على وجوههم.
منذ ذلك الحين والرّهبان في دير أوبتينا يجمعون المعلومات عن هؤلاء الشهداء الثلاثة، إذ استبان أنّهم كانوا يُعدّون أنفسهم لهذه اللحظة حتّى إنّ واحدًا منهم وزّع أغراضه على إخوته قبل رقاده بقليل.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الرّاهب الكاهن فاسيلي
اسم الرّاهب فاسيلي في العالم هو "إيغور روسلياكوف" وهو من الّذين بدأوا بإعادة إعمار دير أوبتينا. قبل وصوله إلى الدير بثلاثة أشهر، كتب يقول في مذكّراته: ”صباح 12 آذار 1988، وجدَتْ والدتي صليبي الصّغير الّذي كنت قد أضعته سابقًا. عمري الآن 27 سنة. لقد وضعت هذا الصّليب لأوّل مرة عندما تعمدت منذ 27 سنة. علامة واضحة من الله، معيدةً إلى الأذهان كلمات الرّب يسوع المسيح:... ٱحمل صليبك واتبعني...“.
ٱعتنق إيغور الإيمان بحميّة عام 1984، وأخذ يذهب إلى الكنيسة باستمرار. نظر أحد السّواح مرة إليه وقال: ”هذا راهب يصلّي“. في ذلك الزمن لم يكن إيغور يفكّر مطلقًا بالرّهبنة. كان يقف دائمًا في الزاوية عينها في كاتدرائية الظهور في موسكو. في الزمان الغابر كانت توجد قرية ٱسمها ”ييلوهشوفو“ (ىيلوهوڢو) في هذا المكان، وهي موطئ رأس القدّيس باسيليوس المتباله المغبوط (يُعيّد له في 2 آب). كان إيغور يقف قرب أيقونة القدّيس باسيليوس، وجهه ناحية الإيقونسطاس مقابل أيقونة الملاك ميخائيل وفوقه حائطية لتقدمة دخول السّيدة إلى الهيكل. فيما بعد أُعطي إيغور اسم القديس باسيليوس عند رسامته. وفي عيد الملاك ميخائيل سيم كاهنًا في كنيسة دخول السّيّدة إلى الهيكل في دير أوبتينا.
في 21 حزيران 1988، قدِم إيغور إلى دير أوبتينا الّذي كان خرِبًا مهملاً. فقام هو وبعض الإخوة القليلون الّذين أتوا إلى الدير بإعادة إعمار هذا المكان المقدّس.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] عند دخوله إلى الدّير قدّم إيغور إلى رئيس الدّير السّيرة الذاتية التالية: ”إسمي إيغور روسلياكوف. ولدت في موسكو في 23 كانون الأوّل 1960. درست في الثانوية رقم 466 في ناحية فولغوغراد من العاصمة. بعد أن أنهيت دروسي، عملت سنة في مصنع سيّارات. عام 1980 دخلت إلى قسم الصّحافة في جامعة موسكو. عام 1985 تخرجت من الجامعة حائزًا على شهادة صحافي للجرائد. وكعضوٍ في فريق كرة المياه شاركت في المباريات المحلية والعالمية. كذلك حزت على شهادة عليا في الرّياضة. تزوجت. ثم وقّعتُ أوراق طلاقي في مقاطعة فولغوغراد في دائرة الأحوال الشخصية. لا أولاد لي. ومنذ 1985، أعمل كمعلّمٍ للرياضة في جمعية إتحاد التجارة الرّياضية“.
لم يعرف الإخوة في الدير شيئًا عن هذه السّيرة الذاتية، لأنّه لم تكن العادة أن يُسأل أحد عن ماضيه أو أن يعرض تفاصيل عن نفسه. ولكن بعد عدة سنوات أتى واحد إلى الدير حاملاً صحيفة فيها صورة لإيغور حاملاً كأس بطولة رياضية. عندها أصبح معلومًا أنّه كان قائد فريق كرة المياه في الجامعة وفي وقت لاحق معلّمًا للرياضة.
أوّل من شك في أنّ إيغور رياضيٌ محترف هم شبيبة مدرسة كانت ما زالت ضمن أراضي الدير. هؤلاء الفتية سببوا الكثير من الإزعاج للرّهبان، فكانوا كلمّا تمّ بناء حائط أو ترميمه، يكتب المشاغبون عليه كلمات لا ينطق بها، من دون أي احترام للعمل المبذول في بنائه. في البدء تمّ التكلّم معهم بهدوء ليعودوا عن غيّهم وأُنذروا ولكن دون جدوى. في نهاية المطاف أخذ إيغور الأمر على عاتقه، فرفع بعضًا منهم عن الأرض ماسكًا إيّاهم من مؤخرة عنقهم وقذف بهم على الحشيش. كان لهذا تأثير كبير على الطلاب الّذين لم يوفّروا أي جهد لنقل الإشاعة أنّ كلّ الرّهبان رياضيّون محترفون. هذه الحادثة فرضت الإعجاب بالرّهبان والاحترام لهم، ووضعت حدًّا لكلّ المشاكل والمشاكسات وساد السّلام في الدير.
يُخبِر رئيس الدير ”ملكيصادق“ أنّه عندما كان مرة يُعمّد طفلة ٱسمها إيرينا، والرّاهب الشاب إيغور يساعده، أنهى الخدمة، وكان إيغور يمسك بيد الطفلة إيرينا لأنّ التعميد كان يجري في مياه عميقة. وبعد ثالث غطسة رأى إيغور شعاعَ نورٍ يخرج من عيني إيرينا. المعروف أنّ النّعمة تتنزّل في كلّ خدمة معمودية، إلا أنّ الرّب الإله قد منح إيغور نعمة خاصة وهي رؤية هذه النّعمة كنورٍ لا فقط الإحساس بها.
كان إيغور يشعر بنّعمة ربّه خاصة في عيد الفصح، لدرجة أنّ عينيه كانتا تدمعان، وكأنّه خارج الزمن. وكان يقف لمدة خدمتين كاملتين غير قادر على فَصْل نفسه عن بركات الفصح المنبثّة في الجو. كان الفصح بالنسبة له سرًا، يُسمع فيه الرّوحُ نداءَ العالم الآتي الّذي يخيّلَ لك أنّ إيغور كان يسمعه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] في ما يلي بعض مما دوّنه في مذكراته:
”10 نيسان 1988، ثالث فصح لي... الوقت شيء غامض. أسأل نفسي: هل كان من صوم أم لا؟ هل كانت هناك خدمة؟ ذات يوم، سوف أُسأل عن حياتي. ما الموجود في الحقيقة؟ الرّوح. نقية من أية خطيئة أو ملطخة بها.“
”إفرحي وتهلّلي يا صهون..." نعم تهلّلي! هذه هي حال الرّوح، لأنّه تجلٍ داخلي، ولا يأتي من الخارج.“
”30 نيسان 1989. لقد وهبني الإله نِعَمَهُ مجّانًا، ولكنّ علينا أن نأتيه بكلّ ما لدينا.“
وعندما صار كاهنًا، سأله أحد المؤمنين: ”أيّها الأب، هل لديك أمنية مقدّسة خاصّة؟“ فأجاب: ”نعم، أرغب أن أموت يوم الفصح على دق الأجراس“. وتحققت أمنيته عام 1993.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ما كتبه الأب فاسيلي في مذكراته: ”أحبِبْ قريبك كنفسك. صلِّ من أجله كما لو أنّك تصلّي لنفسك، حتّى ترى أنّ خطاياه هي خطاياك أنت. عليك أن تنزل إلى الجحيم من أجل هذه الخطايا لتخلّص قريبك... يا رب أنت أعطيتني هذا الحب، وغَيَّرْتَني بالكليّة، والآن لا أستطيع إلا أن أَقبل الآلام طوعًا محبةً بقريبي. أبكي وأتنهد ولكن لا أستطيع فعل أي شيء آخر، لأنّ حبّك يا رب يسيّرني ولا أريد أن أنفصل عنه، لأنّ فيه أجد رجاء في الخلاص.“
يذكر أحد الرّهبان أنّه كان يشعر لدى اعترافه عند الأب فاسيلي أنّ هذا الأخير كان كأنّه يأخذ على عاتقه خطايا الآخرين. وما سمعه منه في عظة له صباح أحد السّبوت أكّد له هذا الشعور. كان هذا الرّاهب قد قرأ عن أحد الآباء الشيوخ أنّه استُشهِد لأنّه قد تراكمت عنده خطايا الآخرين الّتي كان يحملها طوعًا... وٱفتكر في نفسه كيف سيموت الأب فاسيلي وقد أخذ على عاتقه هذا الكمّ من الخطايا.
لم يجرء على هكذا عمل إلا الشيوخ النّسّاك القدامى الّذين كانوا يحملون خطايا الآخرين ويكفّرون عنها بصلاتهم. لم يكن الأب فاسيلي يعتبر نفسه ناسكًا، لكنّ الظروف المحيطة بزمن سقوط الشيوعية وبزوغ الحياة الرّهبانية الّتي كانت قد انتفت لفترة طويلة بالإضافة إلى نقصٍ كبير في الإكليروس أدّى إلى إلزام الرّهبان الكهنة بخدمة إضافية وبذلٍ متزايد.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] يقول والد أحد الرّهبان عن رهبان أواخر العام 1980:
”أنّ حالهم تشبه حالنا (وكان قد حارب الفاشيّة الألمانية بين 1941 و1945) في حرب 1941. شبّان، لا خبرة لهم، في أوّل انطلاقة لهم في الحياة يدخلون مباشرةً إلى ساحة المعركة. يزحفون ليزيلوا القنابل، متجمّدين من الخوف ولكن عالمين أنّ على أحدهم القيام بهذا العمل...“.
نورد هنا شهادة لأحد المؤمنين عما حصل له مع الأب فاسيلي:
”كنت على حافة اليأس حتّى أردت الانتحار... على هذه الحال كنت منطلقًا ذات يوم إلى دير أوبتينا للعمل جاهشًا بالبكاء. لمّا رآني أحد الآباء هناك وعرف حالي نصحني بالذهاب إلى الأب فاسيلي. وصلت إلى قلاّيته فكلّمني لمدة خمس عشرة دقيقة. أذكر كيف قال لي: ”إذا كنت تستطيع... سامح، وإذا كنت لا تستطيع.. غادر“. وصلّى لي. تركته وأنا في أحسن حال، أضحك من شدّة فرحي بالحياة!“.
لم يبالِ الأب فاسيلي بإرضاء الآخرين أو كسب محبّتهم أو تلقي المديح لدرجة أنّ عددًا كبيرًا من رهبان دير أوبتينا وزوّاره لم يتعرّفوا على هذا الرّاهب الصّامت إلا قبل وفاته بقليل.
سيم فاسيلي كاهنًا قبل سنتين ونصف من استشهاده. في البدء لم يكن يعترف لديه سوى الزوّار. وهؤلاء كانوا قلّة لأنّ كثيرين كانوا يخشون هيئته المهيبة. كان الشبّان يدعونه بالـ"نصب"، لأنّه كان ينتصب دون حراك أثناء الخدم. وعندما كان يقبل الإعتراف لم يكن يجلس قط. كنت تراه في الأسبوع العظيم يقف 18 ساعة متتالية. لم يكن لديه الكثير ليقوله في الاعتراف. كان يسمع بصمت. بعد وفاته، تبيّن في مذكراته أنّه لم يكن فقط يسمع بدقة كلّ كلمة يقولها المعترف، بل كان أيضًا يتضرّع أمام الله لكلّ واحد منهم قائلاً: ”سامحني يا رب، لأني أنا الّذي أخطأت أمامك
كان الأب فاسيلي يسجّل أسماء كلّ المعترفين والمعتمدين لديه ويذكرهم في صلاته الخاصة في القلاية.
يشهد له كلّ من اعترف لديه أنّه رغم عدم بوح الأب فاسيلي بكلمة إلاّ أنّه كان يتركه مرتاحًا كمن أزاح عن قلبه حملاً ثقيلاً!
استشهاده
كان الأب فاسيلي يملك صليبًا خشبيًا كبيرًا عليه أيقونة للسّيّد. كان هذا الصّليب عزيزًا عليه لأنّ بعض الحجّاج الرّوس حملوه معهم عند دخولهم إلى أورشليم ومرورهم بالجلجلة وحتّى وصولهم إلى قبر المسيح حيث وضعوه للتبرّك. قبل وفاته بقليل، أخذ الأب فاسيلي هذا الصّليب وقدّمه لأحد الرّهبان الرّسامين في مشغل الأيقونات قائلاً له: ”أريدك أن تحتفظ بهذا الصّليب لبعض الوقت! هيا لنجد له مكان!“. ثم علّقوه على الحائط في المشغل... لقد أحضر الأب فاسيلي صليب الجلجلة هذا لينصبه في مكان جلجلته إذ إنّه قتل قرب مشغل الأيقونات مقابل الصّليب!