مجمع أورشليم
بإسم قيم الشريعة, صلب يسوع, و باسم هذه القيم عينها اضطهد شاول اتباع المصلوب. و لم يكن ظهور المصلوب له قاهرا ً الموت و ممجّدا ً, سوى الدليل على أن القيّمين على الشريعة قد خانوا روحها, و حولوها, جيلا ً إثر جيل الى كتلة متشابكة من الفرائض الخارجية و الفتاوي. و على ضوء نور الرب الساطع , تبيّن بولس أن يسوع إنما جاء لكي يقوّم هذا الإعوجاج, و يسلّم كرمه لقوم يحسنون العناية به. و اتّضح له أنّ الذين أوتوا الإيمان بالله الواحد قد شوّهوا هذا الإيمان بسلوكهم البعيد عن حبّ الله لخليقته, و بانغلاقهم على عنصريتهم , و بغضهم لسائر الخلق أجمعين, و اقتصارهم , من الدين, على مظاهر لا روح فيها, فأحكموا تنظيم أدق تفاصيل الأكل و الشرب و الإغتسال, لكنهم أغفلوا الروح و المحبة.
و ما إن انفتح قلب بولس على حقيقة ابن الله, حتى تلقى منه تكليفا ً بنشر معرفته و حبّه بين الأمم الوثنية, و اكد له هذا التكليف مرّة إثر مرّة, مثبّتا ً أنه إله البشر أجمعين، المعني بجميع خلائقه، والمساوي بينهم بحبه والذي تجسّد وصُلبَ وقام لكي يقود جميعهم الى الخلاص من غير إستثناء ولا تمييز. لقد أدرك بولس بجلاء أن عهدا ً جديدا ً إنبلج كالفجر النقي، عهد حب ومساواة وإنفتاح وصفح ومسامحة، وتآخ ٍ جعل من العهد القديم ليلا ً قاتما ً غارقا ً في عتمة ٍ مريعة.
وقد علم يسوع المحبة الشاملة, و المساواة بين البشر, و الصفح , و العدل , مؤكداً ان وليمة الآب مفتوحة لكل ضيف, و كل جائع, و أن الإيمان هو روح, و عمل تحدوه المحبة, و أن عبادة الله باتت متاحة لكلّ إنسان, في كلّ مكان . و ما انفكّ يؤكد أن ما قيل للأقدمين, قيل لحقبة مضت و اندثرت, أما هو فيقول ما لم يُقل من قبل, و ما ينبغي أن يصبح منهاجا ً للعهد الجديد, الذي استُهلّ بمجيئه. و قد انذر تلاميذه بتعذ ّر التوفيق بين العهدين, فالثوب العتيق تفضع عتقه الرقعة الجديدة, و الزقاق العتيقة تفجرها الخمرة الجديدة , فتتلف جميعها.
هذه الجدّة لم يستوعبها تلاميذ يسوع الأقربون إلا ببطء, غير أن بولس أدركها بعمق منذ ظهور يسوع له, و لا عجب إن أسند إليه الرب تبشير الأمم الوثنية به.و تلقائيا ً شرع بولس يُبشّر وهو متحرّر تحرّرا ً تاما ً من كل قيود الشريعة ومن مخلفات العهد القديم مستقبلا ً في أحضان الكنيسة بلا تحفّظ، كل من آمن بأن يسوع هو إبن الله، وإعتمد تائبا ً عن خطاياه وإرتضى أن يلتزم تعاليم المحبة والطهر.
أما عندما كان يخاطب اليهود، فكان يُثنت لهم، بلا تردّد وبالرجوع الى الأنبياء، أن يسوع هو،هو، المسيح المخلّص الذي إنتهت بمجيئه الشريعة.
و قد دأب على مناهضة بولس أيضا ً, و على انتقاد تبشيره, فئة ضالة من المسيحيين, الذين , مع إيمانهم بيسوع , لم ينعتقوا من سطوة اليهودية ,و ظلت الشريعة تسيطر على عقولهم و نفوسهم, فراحوا يروّجون أن لا مسيحية صحيحة من غير إلتزام بفرائض الشريعة, و أهمها الختان. فحرص بولس الرسول على تأكيد إستقلال المسيحية إستقلالا ً تاما ً عن اليهودية وشريعتها وعلى إبراز وجهها الخاص، وهو وجه يسوع، ولا أحد سواه، وتعليمه الخاص وهو تعليم المحبة والإخاء والشمول. و انعقد مجمع أورشليم بمبادرة من بولس, و بما أن الرسل الذين شاركوا فيه, كانوا من الذين شاهدوا تجلي يسوع, و سمعوا الآب يفوّضه بالتعليم دون سواه, و لم يكن بوسعهم إلا تأييد موقف بولس الذي لم يكن سوى انعكاس لموقف يسوع, و النتيجة العلمية لتعليمه, و مدّوا له يمنى المباركة و المشاركة.
فكر بولس
1. إن الإيمان ليس نتيجة ممارسات خارجية, بل هم نعمة من الله تقدّس من يقبلها و يسلك بهديها, و خير دليل على ذلك إبراهيم أبو المؤمنين الذي آمن, و نعم بخيرات الإيمان, مع أنه لم يعرف الشريعة.
2. الشريعة التي أعطيت للأقدمين كانت لهم بمثابة مربّ و هو الأجير الذي يرافق التلميذ الى المدرسة و يعود به الى البيت, و يسهر على تعليمه, الى أن يشتد عوده. و هذا الدور المؤقت للشريعة قد انتهى بحلول ملء الزمان, ومجيء المخلّص.
3. الشريعة أنزلت بذاتها على ذاتها حكم الموت لأنها رفضت خلاص المسيح و صلبته.
4. تعليم يسوع روح, و حرية, و حبّ, و مساواة, و انفتاح على العالم أجمع, و لا يمكن أن يتماشى مع الحرف القاتل, و روح الإنتقام, و ادّعاء التفوّق, و حصر الوعد في أرض و ممتلكات.
5. الختان الذي كان يعدّ علامة الإنتساب الى الرب, استعيض عنه بالعماد و حلول الروح القدس, فالرب رب الأرواح و النوايا, لا رب الأجساد,و لا يفرّق بين إنسان و إنسان إلا بإيمانه, "وإن كان الروح هو الذي يقودكم, فلستم بعد, في حكم الشريعة."
6. بمجيء يسوع المسيح, اكتمل كل شيء, فكيف يُلتمس الناقص, و المؤقت, و الزائل, بعد أن تحقق الكامل, الدائم , الأبدي ؟ إن من يشترط الختان و التزام الشريعة, من أجل الإنضواء الى المسيحية, إنما ينتقص من قيمة الصليب و فداء المسيح. و من المحقق أنه لم يستنر, بعد, بالإيمان.
الشريعة عرّفت الإنسان بالخطيئة, و حذرته منها, لكنها لم تهبه القدرة على مجابهتها و التغلب عليها,أما الإيمان فيهب النعمة للنهج بهديه و التغلب عليه.
و جدير بالتنويه أن بولس, مع كل صلابة موقفه من الشريعة و من اليهودية , لم يضمر أي حقد لليهود بني قومه , بل لطالما صلى كي ينقشع الحجاب عن بصيرتهم , فيعترفوا بالمسيح مخلصهم , و تمنّى لو يُبسل, هو نفسه, لقاء هذه الإستنارة.
لاهوت بولس , لم ينهض على خبر سمعه , بل على يسوع الحي الذي كلمه, ثم تكلم و عمل فيه , لا على يسوع التاريخ , بل على يسوع الروح الحي أبدا ً, و الفعّال في قلوب البشر و نفوسهم . إنّه خلاصة الحبّ الخصب الذي عاشه بولس مع يسوع . محور كل لاهوت بولس هو يسوع الربّ , بكلّ ألوهته , و بكل غنى مجده , بوجوده السابق لتجسّده , و بتجسّد ه, و تعليمه , وآلامه , و صلبه , و موته , و قيامته ,و صعوده , و بشفاعته الدائمة لدى الآب , و بنعمته التي يجود بها عبر روحه القدوس . و روح لاهوت بولس هو "في المسيح" و "مع المسيح". فالمسيحي هو من مات في يسوع و قام معه , وما الكنيسة سوى جسده و روحه , و مستودع تعليمه . وواجب المسيحي , لكي يكون عضواً فاعلاً في هذا الجسد , أن يتمثل بالمسيح في موته و قيامته , و أن يعيش فيه , لكي يتمجّد معه الى الأبد .
إن مسيرة بولس و تبشيره و رسائله يحكمها جميعها منطق واحد , و ديناميكية واحدة نابعة من لقائه الحاسم , على طريق دمشق , بالمصلوب الذي قهر الموت , ذلك الحدث المباغت الصاعق الذي حوّل شاول الفريسي إلى بولس الرسول .
ذلك اللقاء هو الذي يفسّر بولس و فكره . ففي دمشق التقى بولس الربّ القائم من الموت و أعلن له سرّه في نور باهر , و أخصب فكره بغنى هذا السرّ , و كلّفه بمهمّة نشره في العالم , و هي مهمة كان قد أعده لها منذ كان جنينا ً في بطن أمه .
من الربّ الممجّد , إذن, تعلم بولس كلّ شيء , و ما فكر بولس سوى فكر يسوع الذي أطلعه على سرّ محبة الله . ثمّ إن بولس توغّل في الإندماج بيسوع . بحيث بات يسوع هو الذي يحيا و يعمل فيه , و هو الذي يتكلم بفمه , و يعلم من خلاله .
بشفاعات الرسول العظيم بولس ايها الرب يسوع المسيح الهنا ارحمنا وخلصنا آمين .
تم .
************************************************************