تحيط بنا الثّورات من كلّ جانب وصوب ، ونشهد انتفاضة الإنسان على واقعه الأليم والمرير ، ونسمع صرخاته المدويّة ، يطالب بها بحرّيّته واستقلاليّته . وهذه الأصوات المرتفعة من هنا وهناك ، إنّما تدلّ على توق الإنسان للحرّيّة والانعتاق من الأسر ، شتى أنواع الأسر ، على الصعيد الإنساني والإجتماعي والسّياسي... ولكن وجب على الإنسان أن يمرّ بتحرير الذّات أوّلاً ، ليبلغ حرّيّته على مستوى المجتمع . والتّحرّر لا يعني فقط اسقاط الأنظمة ولا التّخلّص من احتلال ، إنّما التّحرّر بالدّرجة الأولى يكون على مستوى الجسد والرّوح ، فيعي الإنسان قيمة الحرّيّة الّتي يطالب بها . ليس الموضوع سياسيّاً ، بل هو إنسانيّ بامتياز . ونحن على أبواب الصّوم ، علينا أن نحدّد أهدافنا منه وبالتّالي الخوض في هذه الثّورة على الذّات لبلوغ الحرّيّة .
ألصّوم وهو الإمتناع عن الطّعام لمدة من النّهار ، والانقطاع عن بعض الأطعمة ، لا يبلغ أهدافه ما لم ينقطع الإنسان من الدّاخل عن العالم . والمقصود بالعالم ، عالم الجسد ، عالم الشّهوات ، أللحم والدّم . والانقطاع عن العالم لا يكون بالتّنسّك ، أو الإنعزال ، بل ونحن في قلب العالم ، نسيطر على الجسد ، ونتحكّم به . ولمّا كان الصّوم ثورة ، أي انقلاب على كلّ ما هو قديم ، وجب التّحكّم بالذّات من خلال الجسد لتنقية الرّوح . فالانقطاع عن الطّعام هو سيطرة على الجسد وإخضاعه للأنا . فأتحكّم بالجسد وأدرّبه ليكتسب إرادة قويّة من خلالها أتحرّر من رغباتي الفانية . ألإنقطاع عن الطّعام جزء يسير من الصّوم ، لأنّ الصّوم الحقيقي الّذي هو ثورة على الذّات ، هو اكتساب المقدرة على التّحكم بالأنا، وبالتّالي تغيير الحياة الدّاخليّة . الجزء الأهم من الصّوم هو القراءة المكثّفة لكلمة الله ، والمواظبة على الصلاة . من كلمة الله نقتتي وفي الصلاة نحاوره ونناجيه . فإن كان الإيمان هو علاقة حبّ بين الإنسان والله ، فالصّوم والانقطاع عن العالم ، إعلان صارخ لله ، بأنني أنا الإنسان اعلن حبّي المطلق لله ، وهو الّذي فوق كلّ رغباتي .
وأسباب هذه الثّورة على الذّات كأهدافها ، وليست كما ثوراتنا ، تختلف أسبابها عن أهدافها وتغرقنا في هلاك جماعيّ . فالثّورة على الذّات ، أسبابها هي السّيطرة على الجسد والتّحرر من رغباته الملحّة وسنبلغ هذا الهدف في حال جاهدنا روحيّاً ومعنوياً .
وفي جهادنا المقدّس هذا ، لا نكون وحدنا بل لنا مثال عظيم يقود خطانا ويرعاها ، وهو الرّبّ يسوع المسيح، الّذي اختبر إنسانيّتنا واختبر ضعفها وبالتّالي أراد أن يعرّفنا من خلال الصّوم ، أنّ الصّوم ثورة تبلّغنا الإنتصار على العالم .
بعد أن صام السّيّد ، وبعد أن مرّت أيّام صومه ، جاع ولا بدّ أنّه تعب ، فدنا منه المجرب وقال له: ((إن كنت ابن الله، فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزا)) متى ( )4/3) . وهنا التّجربة الإنسانيّة في كيفيّة السّيطرة على الجسد وعدم السّماح له بأن يقودنا إلى الهلاك . فأجاب الرّبّ : ما بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (متى 4/4) . إن الرّبّ لا يريد لنا الجوع ولكنّ الحياة الحقيقيّة هي الله . هو أوّلاً ثمّ الجسد . فمنه الحياة وبدونه الموت . كما يقول بولس العظيم ، " إنّ الأطعمة للجوف ، والجوف للأطعمة والله سيبيد هذا وتلك ، أمّا الجسد فللرّبّ " . بمعنى أنّ الجسد يتصرّف من خلال الرّبّ وليس من خلال الرّغبات . فالرّبّ وحده يحيي هذا الجسد ويعرف ما هو لخيره .
ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، فأوقفه على شرفة الهيكل وقال له: ((إن كنت ابن الله فألق بنفسك إلى الأسفل، لأن الكتاب يقول: يوصي ملائكته بك، فيحملونك على أيديهم لئلا تصدم رجلك بحجر)). فأجابه يسوع: ((يقول الكتاب أيضا: لا تجرب الرب إلهك)).
ألسّيطرة على الغرور الإنساني أو التّعالي على الله . الله ليس بحاجة لأن نخبره عن قدراتنا فهو الّذي أعطانا إيّاها ، ولسنا بحاجة لأن نتعالى عليه بعقولنا ونفوسنا ، فبذلك حجْب له ، وبالتّالي حجب للحكمة والعقل ، وحجب للحبّ . ما لم تكن حكمتنا من الله وما لم نحبّ انطلاقاً منه ، فلسنا بعد على مستوى إنسانيّتنا ، وسنسقط حكماً ، ليس لأنّه يريد سقطتنا بل لأنّ حجْب الله هو استدعاء للموت .
وأخذه إبليس إلى جبل عال جدا، فأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها وقال له: ((أعطيك هذا كله، إن سجدت لي وعبدتني فأجابه يسوع: ((إبتعد عني يا شيطان! لأن الكتاب يقول: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.))
التّحكّم برغبات الجسد يمنحنا القدرة على إهمال مجد العالم ، المجد الباطل ، الّذي يغوينا فننغمس به ونبلغ الموت . (للرب وحده تسجد وإيّاه وحده تعبد ) . ألولاء والانتماء التّام لله . ليس لأنّ الله يستعبد الإنسان ويأسره بل لأنّ الله يريد حرّيّة الإنسان . وبما أنّه حرّيّة فبالتالي هو يتفاعل مع حرّيّة أخرى : ألإنسان . وإن تبيّن أن الله يستعبد الإنسان فيكون هذا الإله من اختراع الإنسان ، صنم على صورة الإنسان . لكن الله حرّيّة وارادنا ابناء وبالتّالي نحن أحرار بالله وليس خارجاً عنه .فأن نسجد لله فقط ونعبده وحده دوناً عن سواه هو بلوغ الحرّيّة التّامّة . والخضوع للعالم هو نوع من عبادة مع الله ، ولا يمكننا عبادة ربّين ، إمّا الله وإمّا الصّنم الذّي اخترعناه .
أن نصوم هو أن نثور على ذواتنا ، أن نغيّرها من الدّاخل . ننقلب عليها ونبدّد كل سوء فيها لنبلغ حرّيّة أبناء الله . فلنحرّر أنفسنا من كلّ ما يأسرنا ، ولنتخلّى عن كلّ ما يثير لذّتنا الأرضيّة ولنتطلع نحو الحبّ الأزلي الذي صار إنساناً لأجلنا ، وهو القدوة الأمثل الّتي يجب أن نقتدي بها ، فنثور على الإنسان القديم ونلبس الإنسان الجديد لنلقى في نهاية صومنا عريسنا ، وندخل فرحه ونتّكئ على مائدته ، لابسين ثوب العرس،ثوب الأبناء .
.