" ألمجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام ، وفي النّاس المسرّة "
هكذا رنّم الملائكة حضور الله في العالم ، وهكذا استقبلت المسكونة ذلك الطّفل الإلهيّ الّذي دخل تاريخ البشر ، ليجدّد وجه الكون ، ليغيّر وجه الأرض.
" لا تخافوا" ، عبارة تستهلّ بها السّماء هذا الحدث العظيم ، ولا يتركنا يسوع متى قام وصعد إلى أبيه إلّا وشدّد على عدم الخوف . " ها أنا معكم حتّى انقضاء الدّهر " .
ألخوف هذا العامل الأساسيّ الّذي يعيق مسيرتنا الحياتيّة ، على المستوى اليوميّ ، الإجتماعيّ ، كذلك على المستوى الرّوحيّ . لا ننفي بأنّ الخوف الإيجابيّ ، قد يكون حافزاً لنجاح الإنسان ، ولكنّنا نتكلّم عن ذاك الخوف السّلبيّ الّذي ينتقص من محبّتنا للرّبّ . فإن كنّا نصدّق بقلبنا وعقلنا ما يقوله الرّبّ لنا، فلا داعي أبداً للخوف . وأقولها ببساطة شديدة وثقة كبيرة بمن تنازل عن عرشه السّماويّ ليصير إنساناً مثلي.
" لا تخافوا".. ومّمّ نخاف ، وممّ نقلق ، إذا كنّا نسكن داخل الثّالوث المقدّس ونحيا مع أبينا بيسوع المسيح بقوّة الرّوح القدس . أموت ، أم شدّة ، أم مرض أم ... . كلّ ذلك ينتفي متى أدركنا حقيقة أنّنا متّحدون بيسوع المسيح.
ألله صار إنساناً ، لندرك أوّلاً قيمتنا الإنسانيّة . فبحلوله فيها رفعها إلى أرفع مستوى ، ألمستوى الإلهيّ . كما أنّه دخل بشريّتنا وحمل كلّ ما فيها ما عدا الخطيئة ، واختبرها بكلّ ضعفاتها وبكلّ عظمتها . إنّ المجد الّذي وهبنا إيّاه الله بالدّرجة الأولى هو إنسانيّتنا ، ثمّ المجد الآتي أن نرتفع إلى مستوى الإله .
هذا الطّفل الّذي دخل تاريخ البشر ، واتّحد به ، حمل معه الفرح العظيم. حمل مجد الله في العلى ، ليحلّ على الأرض السّلام . هذا هو مختصر سلام العالم . " ألمجدلله في العلى ، وعلى الأرض السّلام " .
إنّ السّلام الّذي نتوق إليه ، ليس سلام العالم ، لأنّ لا سلام في هذا العالم ، إنّما هناك مصالح وارتباطات تتبدّل وتتغيّر . سلام العالم آنيّ ، مؤقّت . ما نتحدّث عنه ، هو السّلام الأبديّ ، أي أنّه ورغم كلّ شيء ، رغم كلّ الآلام والمصاعب والمشاكل ، أعي بثقة ، أنّ يد الله هنا لتنتشل من لجة الموت والشر القابض على حياة الناس ، تلك الصورة الأولى التي خلقنا الله عليها من البهاء والطهر . كما أعي أنّه وأنا في قمّة ضعفي ، وأقصى درجات عبوديّتي ، هناك من يناديني صارخاً : " قم واحمل سريرك وامشِ " .
نتحضّر للميلاد ظاهريّاً ، اكثر ممّا نتحضّر روحيّاً ونفسيّاً ، لذا يسيطر الخوف علينا . ألميلاد ليس في الخامس والعشرين من كانون الأوّل ، إنّه في كلّ لحظة من حياتنا ، وإلّا لبقي ذكرى جميلة ، نكرّرها كلّ سنة .. ألميلاد ليس الثّياب الجديدة ، والمأكولات والزّينة بحسب الموضة !! ألميلاد واقع يتجدّد كلّ لحظة .
لا أعارض بهجة العيد ولا أدعو للتّجرّد الكامل ، إنّما أدعو إلى السّموّ بإنسانيّتنا نحو الحبّ الأزليّ ، لنهيّأ قلوبنا ونفوسنا ، بيت لحم جديدة ، يجتاحها السّلام الإلهيّ .
قديماً كان أجدادنا يزيّنون الأشجار الطّبيعيّة بشتّى أنواع الفاكهة ، لأنّهم كانوا يعون أنّ الميلاد هو الحياة . وإن كانوا يجهلون كيفيّة التّعبير . أمّا نحن اليوم ، فنبتاع تلك الشجيرات الصّنميّة ونختار الأغلى !! ولا نكتفي بالزّينة البسيطة ، لا بل نتنافس مع بعضنا البعض لنتفاخر وبحسب الموضة بصنميّة الزّينة الّتي وإن دلّت على شيء فهي تدلّ على أنّنا فقدنا إلى حدّ بعيد أهمّيّة أن نعيش الميلاد .
أن نعيش الميلاد ، هو أن نحيا الحبّ . كان يمكن ليسوع أن يولد في أفخم قصور العالم ، وأن تزيّن له الملائكة المسكونة كلّها بأبهى الحلى. ولكنّ السّماء أعلنت الخلاص بمجد العليّ ليحلّ السّلام على الأرض . في ذلك المذود ، الّذي احتضن الحبّ الأزليّ ، سكنت السّماء وحلّ الحبّ .
ونحن نتحضّر لميلاد الرّبّ ، وليس لذكرى ميلاد الرّبّ ، فلنفرش قلوبنا وروداً وياسميناً ، معطّراً بعبق القداسة ، بروح المسامحة الحقيقية . لننزع من قلوبنا أوّلاً خوفنا من الآخر ، ولنتقدّم بشجاعة ونمدّ يد الحبّ إلى الآخر كائن من كان . لا أنتظر أن يأتيني أحد ، عليّ أن أبادر أوّلاً على مثال من أحبّني أوّلاً ، فبادر وأتى إليّ .
وإن كنّا نصوم في هذا الزّمن المجيد ، فليس لاتّباع طقوس معيّنة ، وإنّما لنغسل قلوبنا من وحشة الخوف ، ونجعلها بيضاء نقيّة ، لتليق بملك المجد ، بالرّبّ الآتي ، ليمحو عمانا ، ولنقم من أمراضنا ، ولنتحرّر من أسرنا ...
أيّتها الشّعوب السّالكة في الظّلمة ، أبصروا النّور العظيم ،
أيتّها المسكونة ، افرحي وتهلّلي ، فإنّ العليّ سمع أنينك،
نزل إليك ، صار منك ..
أيّتها الشّعوب السّالكة في الخوف ، مجّدي الله في العلى
فيحلّ السّلام على الأرض ..
ولن يحلّ السّلام إلّا إذا تمجّد الله ..
إفتحي قلبك واجعليه بيت لحم الجديدة
يولد فيها الرّبّ الإله ، الّذي له كلّ العزّة والقدرة والمجد
مع أبيه وروحه الحيّ القدّوس
من الآن وكلّ أوان وإلى دهر الدّاهرين.
آمين.