في هذه الحياة , لا يمكننا التيقن إلا من شيء
واحد وهو أننا سنموت كلنا يوما ما , إلا إذا صادف حلول المجيء الثاني قبل أن نموت
. الموت هو الحدث المحدد الوحيد الذي لا مناص منه, وإذا حاولت أن أنساه وان أخفي
على نفسي طابعه المحتوم فلن يكون نصيبي إلا الخسارة .
يعبر القديس اسحق السرياني عن الموقف الواقعي
الرزين الذي يجدر بالإنسان أن يتخذه حيال الموت بقوله : " ضع في قلبك أيها الإنسان فكرة أنك سترحل فقل لنفسك باستمرار
" ها هو الملاك الذي أتى ليصطحبني واقف عند الباب . فلم أنا واقف هنا لا أفعل
شيئا ؟ إن رحيلي مؤبد , ولن أعود . " أمض الليلة تفكر على هذا النحو وتأمل
بهذه الفكرة النهار كله . وعندما تأتي ساعة الرحيل استقبلها بفرح قائلا "
تعالي بسلام ! كنت أعلم أنك ستأتين وأنا لم أهمل أي شيء يمكن أن يفيدني في طريقي
"
·
كلما خلدنا إلى النوم عند حلول المساء , نتذوق الموت بشكل
مسبق , وكلما استيقظنا في صباح اليوم التالي , نذوق القيامة من بين الأموات . ألا يمكن أن نواجه بثقة مماثلة نومنا النهائي
في الموت ؟ ألا يمكننا أن نترقب استيقاظنا مرة أخرى عندما يخلقنا الله مجددا في
الأبدية .
·
إن نموذج الموت – الحياة يتجلى في مسيرة حياتنا , ففي كل
مرحلة من مراحل حياتنا يجب أن يموت شيء مما فينا لكي نستطيع العبور إلى المرحلة
التالية من الحياة . فإذا لم تكن لدينا الشجاعة لترك بيئتنا المألوفة والانفصال عن
أصدقائنا الحاليين لنقيم علاقات جديدة , فلن نحقق أبدا كل ما نملكه, أي كامل
قدرتنا الكامنة في داخلنا . إن تعلقنا الطويل الأمد بما هو قديم يجعلنا نرفض
الدعوة إلى اكتشاف الجديد . يقول سيسيل داي لويس : " التفرد يبدأ برحيل ,
والشهادة للحب لا تتحقق إلا بإطلاق الآخر وإعطائه حريته " .
·
الموت هو التعبير الأعم والأكمل عن كل ما عشناه خلال
حياتنا . فإذا كانت الميتات الصغرى التي خبرناها في حياتنا قد أوصلتنا في كل مرة
إلى ما هو أسمى من هذه الحياة , أي إلى القيامة , فلماذا لا تكون هذه أيضا الحال
بالنسبة إلى لحظة الموت الكبرى عندما يحين الوقت لمغادرة هذا العالم ؟
·
يقول القديس باسيليوس الكبير " " إن موت
المسيح هو موت " يعطي الحياة " . وكون المسيح هو مثالنا المحتذى , نعتقد
أن موتنا نحن يستطيع أن يكون أيضا موتا يعطي الحياة . "
·
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم : " لا يخشين احد
الموت لأن المخلص حررنا منه , فقد أباده بعد أن ذاقه (...) المسيح قام وملكت الحياة . المسيح قام ولا ميت
في القبر .
·
إذا كان الموت مصيرا ينتظرنا جميعا , فهو أيضا أمر غير
طبيعي , لا بل وحشي ومأساوي . فأمام موت أقربائنا وموتنا نحن , هناك دوما تبرير
لمشاعر يأسنا ورعبنا وحتى تمردنا على هذا الواقع , مهما كنا واقعيين يقول الشاعر
ديلان توماس : " لا تدخلوا بصمت في هذا الليل الصالح . ثوروا واعصفوا ضد
احتضار النور." ويسوع نفسه بكى أمام مقبرة صديقه لعاذر ( يو 11 , 35 ) وشعر
بالحزن والكآبة في بستان الجسمانية من جراء التفكير بموته القريب جدا ( متى 26 ,
38 ) . كما أن القديس بولس يعتبر أن الموت عدو يجب القضاء عليه ( 1كور 15 , 26 )
ويرده إلى الخطيئة مباشرة بقوله : " إن شوكة الموت هي الخطيئة" ( 1كور
15 , 56 ) . فكوننا نعيش كلنا في عالم ساقط , عالم منحرف , مفكك , مجنون , محطم ,
فإننا سنموت . لكن الموت المأساوي هو في الوقت
ذاته بركة . فلو قيض لنا نحن البشر أن نعيش في هذا العالم الساقط إلى ما لانهاية ,
أسرى حلقة الملل والخطيئة المفرغة , لأضحى هذا العيش قدرا مرعبا يصعب احتماله .
لهذا قدم لنا الموت مخرجا . فالموت يحل اتحاد الروح بالجسد لكي يستطيع بالتالي أن
يُتحدهما مجددا ويعيدهما إلى ملء الحياة في قيامة الأجساد في اليوم الأخير . إن
الموت أشبه بالخزاف الذي تحدث عنه النبي إرمياء بقوله : " فنزلت إلى بيت
الخزاف فإذا هو يعمل على المخرطة , فحصل عطل في الإناء الذي كان الخزاف يصنعه من
الطين في يده , فعاد وصنعه إناء آخر كما حسن في عينيه أن يصنعه " ( إر 18 ,
4-5 ) وكما ترتل الكنيسة الأرثوذكسية في خدمة الجَناز : " يا من في القديم من
العدم جبلتني ... لتتجدد فيَ صورة الجمال القديم "