" لا تلمسيني لأنّي لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". ( يوحنا 17:20).
لمّا التفتت مريم ورأت الرّبّ عاينته في مجده، مع العلم أنّها لم تعرفه قبل أن يناديها باسمها. "لما قالت هذا التفتت إلى الوراء، فنظرت يسوع واقفاً، ولم تعلم أنّه يسوع." ( يوحنا 14:20). تشير الكلمة ( واقفاً) إلى قيامة الرّبّ، لكنّ كان ينقص مريم التّخلّي عن الحزن والاصغاء إلى صوته. وما إن سمعت صوته في عمق أعماقها أظهرت شوقاً قويّاً لملاقاة السّيّد. " ربّوني!" ( يوحنا 16:20). الشّوق إلى المسيح أعظم من أيّة عبادة تقليديّة، والتّوق إليه يقرّب المسافة أكثر فأكثر إلى أن نتّحد به.
- " لا تلمسيني لأنّي لم أصعد بعد إلى أبي":
وكأنّي بالسّيّد يقول " المسيني بعد أن أصعد إلى أبي".
لمّا كان بالمسيح كلّ شيء جديد، فهذا الجديد يشمل الشّعور تجاه المسيح، والحبّ الموجّه إليه. لَمْس السيّد كما أرادت مريم أن تلمسه يلغي الشّوق إليه فيحضر الاكتفاء والتّعوّد، وقد يبهت الحبّ. وإنّما المسيح يريدنا أن نلمسه بقلوبنا لا بأيدينا، فالقلب إذا ما لمس الرّبّ اتّقد شوقاً إليه وتألّم حبّاً واحترق فرحاً. وفقد القدرة على الابتعاد عنه، وظلّ في حالة انتظار دائم لمجيء السّاعة، ساعياً دوماً للانطلاق والتّبشير بهذا الحبّ. " جاءت مريم المجدلية وأخبرت التّلاميذ أنّها رأت الرّبّ". ( 18:20).
من العسير أن نلتقي بالمسيح الحيّ ويغمرنا فيض حبّه ونبقى في مكاننا. هذا الحبّ يمنحنا طاقة الخلق الجديد، فيدفعنا لإعلان الحبّ الإلهيّ للعالم كلّه. وفي كلّ مرّة نعلن حبّ المسيح نلمسه ونشتاق إليه في الوقت عينه.
- " ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إنّي أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم":
وكأنّ لمس مريم للرّبّ سيعطّل رسالة التّبشير من جهة الارتباط به أنانيّاً. فإن احتكرنا المسيح لنا وحدنا، لن نتمكّن من تبليغ حبّه، وسنحجبه عن كثيرين. ( لا تلمسيني... ولكن اذهبي...)، أي لا تحدّدي الحبّ في إطار انفعالات بشريّة وإنّما فليتحوّل في داخلك إلى لغة إلهيّة. ثمّة فرق كبير بين أن نحبّ الرّبّ محبّة بشريّة اعتماداً على عواطفنا الفقيرة، وأن نحبّه بحسب الخلق الجديد، أي بقلبه الإلهيّ.
- " إنّي أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم":
شكّلت هذه الآية معضلة ما، وقد تساءل كثيرون عن صحّة ألوهيّة المسيح انطلاقاً منها. مع أنّها الآية المشرقة بالمفهوم الإلهيّ الحقيقيّ. قال الرّبّ لمريم: " اذهبي إلى إخوتي"، ولم يقل إلى تلاميذي. ما يدلّ على ارتباط أعمق وأعظم ما بعد القيامة بين الله وبيننا. وهنا يتجلّى المفهوم الجديد لله غير ذلك الّذي يعتمده الإنسان. فالله أخ، وصديق، وحبيب. ولم تعد فكرة السّيادة المتعالية مقبولة بعد أن التقينا بالمسيح الحيّ.
( أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم). بين الأبوّة والألوهيّة رابط قويّ، ودلالة على أنّ الله أقرب ممّا نتصوّر، وعلاقته بنا علاقة أبوّة إلهيّة. الألوهيّة هي الحبّ المطلق، والحنوّ اللّامتناهي، والشّوق الّذي لا يرويه أيّ اكتفاء. ومريم المجدليّة فهمت تماماً مقصد الرّبّ، وانطلقت لتخبر الإخوة أنّها رأت الرّبّ بل لمسته بكيانها الإنسانيّ الّذي على صورته البهيّة.