دعوتي
في البدء انتزع الله الإنسان من الأرض وجبله من ترابها، ثمّ نفخ فيه الحياة. هذه الخليقة الرخصة العود والجميلة في آن، لم تستطع، على مرّ الأجيال، مواجهة الذّات وميولها السيّئة، منقادةً إلى كلّ ما هو "أنا" و"نفسي" فقط، مختبئةً وراء عباداتها لأصنامٍ وآلهةٍ مادّيةٍ شتّى، كي تُقَونِنَ تصرّفاتها الشّاذة البعيدة عن الصلاح. فانفطر قلب الآب على خليقته، "الحسنة" يوم ابتدعها. عندها قرّر أن يحوّل الضعف الّذي اكتنفها إلى قوّة...*وكان ابنه الوحيد،الكلمة، هو الخلاص، "فاتّخذ جسدًا" من جسدنا، صائرًا مثلنا، "وحلّ بيننا"،كي يشاركنا بشريّتنا، فيكشف لنا ما لم نفهمه من دعوتنا: أن تتلاءم صورتنا مع صورة الإبن. وكي يكشف لنا أيضًا أهمّية كلّ فردٍ في تاريخنا البشريّ ودوره في العمل الملكوتيّ على الأرض، ممّا يجعلنا ننتبه للآخر، وأنّ لكلٍّ منّا مكانه ورسالته الخاصّة في تتميم هذا المشروع الألهيّ، حيث خصّنا الآب بشرفٍ عظيم: لقد اختار أن يكون مخطّطه متعلّقًا بقبول الإنسان مشاركته إيّاه وتعاونه معه.
فهل هناك أعظم من هذا الآب، هو الّذي يجعل منّا سفراء لسلامه، ممتلكين كامل الصلاحيّات في التّجوال والتكلّم والعمل أينما كان وبأيّ طريقة ولغةٍ يتطلبّها عملنا معه؟
فهل أسمح اليوم أن ينعكس عمل الله هذا على حياتي؟ هل أدرك، على الأقل، كم هو كبيرٌ احترامه لي وكم هي عظيمة كرامتي في عينيه؟
*من جهةٍ اخرى ، لم يجعل الإنسان عبدًا عندما خلقه بل صيّره أبنًا له. لذلك، في مخطّطه الرائع هذا في إحلال السّلام، نراه محترمًا لحرّيات كلّ فردٍ في سلالة ابنه على مدى ثلاثيّة "الأربعة عشر جيلا ً" (وحتّى يومنا هذا)، محضّرًا بتأن ٍوصبرٍ كبيرين مشروعه الخلاصيّ، إلى أن أتى اليوم الموعود... إنّه لَسِرًّ عظيم!
اليوم، هل أؤمن بمشيئة الله في حياتي؟ هل أثق بأنّه يعمل حتّى من خلال خطاياي أكثر من ذاتي، وأعمق ممّا أتصوّر؟ ... بدوري هل أحترم حرّية الآخر وأتقبّله كما هو؟
*لقد صلّى بولس الرّسول قائلاً:" يا ربّ، إجعل من ضعفي قوّة". إنّ طبيعتنا البشريّة ضعيفة ( كما ذكرت في البداية)، لكنّ الله قادرٌ أن يحوّلها إلى قوّة ويكلّلها بالكرامة بابنه يسوع. ففي سلالة يسوع لم يكن الجميع قدّيسين أو شرفاء: تامار وراحاب، راعوث وبتشابع، كنّ بعيدات كلّ البعد عن الأخلاق والتقوى والسيرة الحسنة. لكنّ الله يفاجئنا بعمله من خلال خطيئتهنّ، في نسلٍ وُلِد منه المسيح. فكما حوّل كمشة التراب إلى آدم ٍ حيٍّ، هكذا حوّل أيضًا طبيعتنا البشريّة الضعيفة إلى قوّةٍٍ وكرامةٍ واحترام ٍ للذات بابنه. فالبشريّة الخاطئة والمحطّمةِ الرازحةِ تحت عبء الشرور، هي نفسها من شاركت وتشارك في تتميم العمل الخلاصيّ، وبالمسيح تقدّست وأصبحت مؤهّلة للمشاركة في ميراث الإبن.
فهل أنا فخورة بعمل الله فيًّ؟ هل أقبل أن أشاركه مشروعي وأرغب أن يتعلّق به على الرغم من ضعفي؟ هل أؤمن حقًا أنّ كرامتي هي من كرامة المسيح فيَّ، فأنطلق إلى العمل؟ أم أبقى متقوقعًا في بؤسي، يائسًا غارقًا في ضعفي، فأتعفن في رفضي لمشروع الآب لي؟
جواب كلٍّ منّا هو يقرَر مستقبلنا، الآن وما بعد الرُقاد . فلْنَكن على قدر المسؤوليّة والأمانة الّتي خصّنا بها الآب.