الأحد 24 تشرين الثاني 1968
البدر كسوة المسجد وفي الضياء يتمايل النخيل كدراويش الذكر.
الصلاة خير من النوم والقمر يداعب المعبد كأنّ الوضوء بماء ونور.
الآذان سحر الملائك كأنه يأتيك من حيث تلتحم الآفاق وتفنى الأرض بانعطاف السماء.
كلّ تاريخنا آذان، منائر تشق السحب، تتنادى في ليالي رمضان، تتلألأ عند التراويح.
ودونها في صحن المسجد ركّع وقرّاء في الزوايا وعجوز هي هيكل وسبحة تردد الأسماء الحسنى بما بقي لها من تمتمات وحس في الأصابع.
لماذا جئت إلى ذلك الجامع الفريد؟ الفن حاكم بلا ريب ولكني استطبت الإقامة بعد نزول الغسق. نحن هنا بلا طنافس، على حصر باليات ولكن الحجارة دافئة غنّاء. نَتِيه في سحر الزخرف، في طرب الخط، نتبيَّن الآيات بما لنا من شعاع، وهي طريحات الأبدية التي لهذا النقش.
بعد المغرب يحلو هذا المسجد أو قُبيل الصبح. لعلَّ واحدًا من أحياء القاهرة يفد وفي النفس اشتياق إلى الطهر. الماء إرادة نصوع، ذلك العميق. تطوع هذا الاغتسال، تبتل لإله. هذا الإله المختفي في الكلمة، المطل علينا من أحرف المصاحف، إله الصحارى المديدة والجنات المقبلة يطيب وجهه للمساكين.
من أجل وجهه سوف تُلامس جبهةُ المؤمن الأرض، في رُكيعات الليل فيرى نفسه منحنية مع الجسد. تواضعها مرقاة. في إيقاعات النهار والليل، في تحوُّلات الدنيا يأتي الـمُصلِّي إلى هنا ليحارب الغفلة ويدفع عن نفسه المغريات. يؤمُّه هذا الشيخ المقدود وكأنه منحوت فرعوني. وكما يتَّقي المسلم الحَرَّ في المسجد تتَّقي نفسه فيه وساوس المطربات.
طشقند، أصفهان، دمشق، المسجد الأقصى! خمس مرات كل يوم تتنادين. خمس مرات إلهك شذى العالم.
يا مقدمات الفردوس، دعاء من لا يعلِّي قولاً على الشهادة الأولى أن تَظلِّي ملاجئ استغفار، يغف القلب فيك واللسان بحيث لا يكون لخطيب غضوب فيك كلمة فَصْل فتبقى العزة لله دون الناس. أجل للمؤمنين عزة ولكنها بالمعنى الذي ورد في القول القرآني : “من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا، إليه يصعد الكَلِم الطيب والعمل الصالح يرفعه”. (الآية). أمّا الانتساب والاسمية فلا يعظم بهما قوم. إن الناس لا يكتبون لله مصيرًا. فليس مجده بمجدهم ولو بلغوا من شأن دنياهم مبلغًا. وفي كلّ حال المهم الوجود لا صورة الوجود. ولعلّ أهم ما في جهاد المسلم ولا سيَّما في آنية الصوم أن يتعرَّى من الزيف، من اللغو، من انتفاخ التاريخ، من الانفعال، وأن يصل إلى تواضع يرصف به نفسه مع الآخرين. وإذا كانوا هم إزاءه على شيء من الصلف أن يذكر كتابه : “فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون” (الآية).
في ليالي رمضان إذا كان الله وحده هو الـمُبتغى فإنه، كالجَمال في جامعي، ليس ما عداه شيء. عند ذاك للـمُسلم رؤية واحدة “لصوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا” ولو شذّ المؤمنون. الله، فوق المؤمنين جميعًا، قبلة السماوات والأرض.
كتاب “حديث الأحد” لسيادة المطران جورج خضر، الجزء الثاني “الدين والأديان”، منشورات النور، بيروت، 1985، ص279 – 281.