(1)
(رأى إيمانهم ، فانبهر )
ورجَعَ يَسوعُ بَعدَ أيّامٍ إلى كَفْرَناحومَ، فسَمِعَ النّـاسُ أنَّهُ في البَيتِ.
فتجَمَّعَ مِنهُم عددٌ كبـيرٌ ملأَ المكانَ حتّى عِندَ البابِ، فوَعظَهُم بِكلامِ اللهِ.
وجاءَ إليهِ أربعةُ رِجالٍ يَحمِلونَ كسيحًا.
فلمَّا عَجِزوا عَن الوُصولِ بِه إليهِ لِكثرَةِ الزِّحامِ، نقَبُوا السَّقفَ وكشَفوا فوقَ المكانِ الّذي كانَ فيهِ يَسوعُ ودلُّوا الكسيحَ وهوَ على فراشِهِ.
فلمَّا رأى يَسوعُ إيمانَهُم قالَ للكسيحِ: ((يا اَبني، مَغفورَةٌ لكَ خَطاياكَ! ))
وكانَ بَينَ الحُضورِ بعضُ مُعَلِّمي الشَّريعةِ، فقالوا في أنفُسِهِم:
((كيفَ يتكَلَّمُ هذا الرَّجُلُ كلامًا كهذا؟ فهوَ يُجدِّفُ! مَنْ يَقدِرُ أن يَغفِرَ الخطايا إلاَّ اللهُ وَحدَهُ؟))
وعرَفَ يَسوعُ في سِرِّه أفكارَهُم، فقالَ لهُم: ((ما هذِهِ الأفكارُ في قلوبِكُم؟
أيُّما أسهَلُ: أنْ يُقالَ لِهذا الكسيحِ: مَغفورَةٌ لكَ خَطاياكَ، أمْ أنْ يُقالَ لَه: قُمْ واَحمِلْ فِراشَكَ واَمشِ؟
سأُريكُم أنَّ اَبنَ الإنسانِ لَه سُلطانٌِ على الأرضِ ليَغفِرَ الخَطايا)). وقالَ لِلكسيحِ:
((أقولُ لكَ: قُمْ واَحْمِلْ فِراشَكَ واَذهبْ إلى بَيتِكَ! ))
فقامَ الرَّجُلُ وحمَلَ فِراشَهُ في الحالِ وخرَجَ بِمَشْهدٍ مِنَ الحاضِرينَ. فتَعجَّبوا كُلُّهُم ومَجَّدوا اللهَ وقالوا: ((ما رأينا مِثلَ هذا في حَياتِنا! ))
مرقس 2/1.12
يبيّن يسوع في هذا النّصّ الإنجيليّ انّه طبيب الأجساد وطبيب النّفوس . لقد شفى هذا المخلّع من إعاقته المزدوجة من إعاقة جسديّة ، كما شفاه من إعاقته الرّوحيّة ، من شلل نفسه وضميره ، وهو ما نسمّيه الخطيئة . وهذه الآية تمّت بفضل إيمان هؤلاء النّاس الّذين سمعوا كلامه وأخذوه على محمل الجدّ ، فتحدّوا كلّ الصّعوبات وأتوا بالمخلّع ووضعوه أمام يسوع .
حالة المخلّع الجسديّة تشبه بقوّة حالة الخطيئة . فالمخلّع لا يستطيع أن يتحرّك ، إذ إنّ كلّ قوى جسده معطّلة . فألخطيئة تعطّل قوى النّفس والعقل عن السّعي إلى الحقيقة . كما تعطّل إرادة الإنسان عن السّعي إلى الخير فينحرف بسلوكه نحو الشّرّ . وهي تعطّل القلب ، الّذي هو مركز الحبّ والحنان والرّحمة والشّفقة والإنسانيّة ، فيغدو متصلّباً . تعيق الضّمير الّذي هو صوت الله فينا ، فيموت .
أراد الرّبّ من خلال هذه الآية أن يبيّن ما هو غير منظور ، و تأثيره علينا دون أن نعي حقيقةً مدى التّشويه الّذي تفعله حالة الخطيئة فينا ، وكيف أنّها تجعلنا مخلّعين من داخلنا .
في هذه اللّوحة الإنجيليّة ، نرى إيمان أربعة رجال يحملون كسيحاً ويحاولون بشتّى الطّرق الوصول إلى يسوع . هؤلاء ، سمعوا كلام يسوع فلمس قلوبهم ، وإنّما تحدّيهم يبرهن عن إيمان عظيم . فالإيمان نور ، ينير العقل والقلب . يوجّه القلب إلى الله وإلى النّاس . الإيمان هو أساس العلاقة مع الله ومع النّاس وضمانة لشفائنا وخلاصنا . وما تعيشه المجتمعات من مآسي ، هو نتيجة لعدم الإيمان ، أي سوء العلاقة مع الله ومع الإنسان .
هؤلاء الرّجال الأربع آمنوا بكلام الرّبّ ، ووثقوا أنّه قادر على شفاء هذا المخلّع ، فحملوه إليه . وعلامة إيمانهم الكبير هو في تخطّيهم للعقبات الّتي تحول بينهم وبين الرّب . لم يستطيعوا الدّخول من الباب ، فكشفوا السّطح . " فلمّا رأى إيمانهم "، انبهر يسوع ، اندهش . تريد أن تدهش الرّبّ ، آمن به ، تحدّى ، كما فعل الأبرص واعمى أريحا . كما الكنعانيّة المنسحقة تماماً بتحدّيها ، والمنزوفة الّتي لا تجد لها مكاناً بين الجموع .
إيمان هؤلاء الرّجال كان صارخاً ، و كافٍ لأن ليعلن الرّبّ أوّلاً غفران خطايا هذا المخلّع . تصرّفهم هو طريقة صلاة ، فالصّلاة ليست كلاماً فقط وإنّما فعل حقيقيّ . هي سلوك ، موقف داخليّ وهي حوار مع الله . فهؤلاء تحاوروا مع الله بالفعل وليس بالقول . ولم يكونوا ليؤمنوا لو لم يسمعوا " الكلمة". فالكلمة هي الفاعلة فيهم . يقول القدّيس أمبروسيوس : " عندما نسمع كلام الله ، أو نقرأه ، فالرّبّ هو الّذي يتكلّم . وعندما نصلّي نحن من نتكلّم وإنّما نستعمل كلماته . "
إذاً نتيجة أعمال هؤلاء الرّجال الأربعة كانت أنّ المخلّع شُفيَ جسداً وروحاً . " مغفورة لك خطاياك ، إحمل سريرك وامشِ " . " ولادة جديدة، جسداً وروحاً " . وكأنّ الرّبّ يريد أن يبيّن أنّ الإنسان مخلّع في حالة الخطيئة ، حتّى لو كان جسمه سليماً .
هذا الواقع المخلّع نشهده في مجتمعاتنا ، في دولنا . نحن فعلاً مخلّعون . تشرذم ، إنقسامات ، عداوات ، حروب ، اعتداءات ، .... إنسان اليوم مخلّع ، والشّعوب مخلّعة . وما لم نعد إلى بناء علاقة سليمة مع الله وبالتّالي مع الإنسان ، لن نقوم يوماً . وعلينا أن نعي مسؤوليّتنا تجاه بعضنا البعض ، ونتصالح مع بعضنا البعض ، ولا نكتفي بترداد أنّ الله تصالح معنا دون أن نفهم حقيقةً ، أنّ مصالحته معنا هي مصالحتنا مع بعضنا البعض . تجسّد الله ليجمع أبناءه ، وليس ليفرّقهم . على صليب الحبّ أمات كلّ تشويه فينا ، وأعاد بقيامته بهاءنا . لماذا ما زلنا متمسّكين بما يجعل منّا مخلّعين ؟.